الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وبالجملة أهل السنة والجماعة ، أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة [ من أهل التفسير والحديث والفقه والتصوف كالأئمة الأربعة وأئمة أتباعهم ] [1] ، والطوائف المنتسبين إلى الجماعة [2] كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية يقولون : إن كلام الله [3] غير مخلوق [ والقرآن كلام الله غير مخلوق   ] [4] . وهذا هو المتواتر [5] [ المستفيض ] [6] عن السلف والأئمة [ من أهل البيت وغيرهم ] [7] .

                  [8] [ " والنقول بذلك متواترة مستفيضة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعي تابعيهم ، وفي ذلك مصنفات متعددة لأهل الحديث والسنة يذكرون فيها مقالات السلف بالأسانيد الثابتة عنهم ، وهي معروفة عند أهلها ، وذلك مثل كتاب " الرد على الجهمية " لمحمد بن عبد الله [ ص: 364 ] الجعفي [9] ولعثمان بن سعيد الدارمي ، وكذلك " نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي [10] والرد على الجهمية " لعبد الرحمن بن أبي حاتم [11] ، وكتاب " السنة " لعبد الله بن الإمام أحمد - رضي الله عنه - [12] ولأبي بكر الأثرم [13] وللخلال [14] ، وكتاب " خلق [ ص: 365 ] أفعال العباد " للبخاري [15] وكتاب " التوحيد " لأبي بكر بن خزيمة [16] ، وكتاب " السنة " لأبي القاسم الطبراني [17] ، ولأبي الشيخ الأصبهاني [18] ، ولأبي عبد الله بن منده [19] ، " والأسماء والصفات " لأبي بكر البيهقي [20] . ، [ ص: 366 ] و " السنة " لأبي ذر الهروي [21] \ 65 . ، و " الإبانة " لابن بطة [22] . ، و " شرح أصول السنة " لأبي القاسم اللالكائي [23] . ، و " السنة " لأبي حفص بن شاهين [24] . ، و " أصول السنة " لأبي عمر [ ص: 367 ] الطلمنكي [25] . .

                  ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون على الأقوال السبعة المتأخرة [26] .

                  وأما [27] . القولان الأولان : فالأول : قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة  ونحوهم ، والثاني : قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم [ من ] النجارية [28] . والضرارية . وأما الشيعة فمتنازعون [29] . في هذه المسألة ، وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم [30] . ، وقدماؤهم كانوا يقولون : القرآن غير مخلوق ، كما يقوله : أهل السنة والحديث . وهذا [ القول ] [31] . هو المعروف عن [32] . أهل البيت كعلي [ ص: 368 ] بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] [33] . وغيره ، مثل أبي جعفر الباقر وجعفر [ بن محمد ] [34] . الصادق وغيرهم .

                  [ ولهذا كانت الإمامية لا تقول : إنه مخلوق لما بلغهم نفي ذلك عن أئمة أهل البيت ، وقالوا : إنه محدث مجهول ، ومرادهم بذلك أنه مخلوق ، وظنوا أن أهل البيت نفوا أنه غير مخلوق ، أي مكذوب مفترى .

                  ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين : من قال : إنه مخلوق ، ومن قال : إنه غير مخلوق . والنزاع بين أهل القبلة إنما كان في كونه مخلوقا خلقه الله ، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته . وأهل البيت إنما سئلوا عن هذا ، وإلا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه ] [35] .

                  ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم  ، فليس في [36] . أئمة أهل البيت - مثل علي بن الحسين ، وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق من كان ينكر الرؤية ، أو يقول بخلق القرآن [37] . ، أو ينكر القدر ، أو يقول بالنص على علي ، أو بعصمة الأئمة الاثني عشر ، أو يسب أبا بكر وعمر [38] . .

                  [ ص: 369 ] والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة ، وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة [39] .

                  وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت ، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه ، كما يقول ذلك المعتزلة ، [ وهم في الحقيقة إنما تلقوه عن المعتزلة وهم شيوخهم في التوحيد والعدل ] [40] . ، وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع . وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة - [ أو بعض أهل السنة ] [41] . - [ ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد ] [42] . ، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غير [ الأربعة ] [43] . ، من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء ، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها ، بخلاف الشاذ الذي يعرف أنه لا أصل له في كتاب الله [44] . ولا سنة رسوله [ - صلى الله عليه وسلم - ] [45] . ولا سبقهم إليه [46] . أحد .

                  [ ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن الحق منحصر في أربعة من علماء المسلمين كأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، كما يشنع [ ص: 370 ] بذلك الشيعة على أهل السنة ، فيقولون : إنهم يدعون أن الحق منحصر فيهم . بل أهل السنة متفقون على أن ما تنازع فيه المسلمون وجب رده إلى الله والرسول  ، وأنه قد يكون قول ما يخالف قول الأربعة : من أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وقول هؤلاء الأربعة [47] . مثل : الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وغيرهم أصح من قولهم .

                  فالشيعة إذا وافقت بعض هذه الأقوال الراجحة كان قولها في تلك المسألة راجحا ، ليست لهم مسألة واحدة فارقوا بها جميع أهل السنة المثبتين لخلافة الثلاثة ( إلا ) [48] . وقولهم فيها فاسد . وهكذا المعتزلة وسائر الطوائف كالأشعرية والكرامية والسالمية ليس لهم قول انفردوا به عن جميع طوائف الأمة إلا وهو قول فاسد ، والقول الحق يكون مأثورا عن السلف وقد سبق هؤلاء الطوائف إليه ] [49] .

                  وإذا عرفت المذاهب فيقال : لهذا : قولك [50] . : " إن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره " : أتريد به أنه حادث في ذاته ؟ أم حادث منفصل عنه ؟ [ ص: 371 ] والأول قول أئمة الشيعة [51] . المتقدمين [ والجهمية ] [52] . والمرجئة والكرامية مع كثير من أهل الحديث وغيرهم .

                  ثم إذا قيل : " حادث " أهو حادث النوع فيكون الرب قد صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما ؟ أم حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلما إذا شاء ؟ والكلام الذي كلم به موسى مثلا [53] . هو حادث وإن كان نوع كلامه قديما لم يزل ؟ .

                  فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك ، وقد علم أنك إنما [54] . أردت النوع الأول ، وهو قول [ متأخري الشيعة ] [55] . الذين جمعوا بين التشيع والاعتزال ، فقالوا : إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه [56] .

                  ] والإمامية وإن قالوا : هو محدث ، وامتنعوا أن يقولوا : هو مخلوق ، فمرادهم بالمحدث هو مراد هؤلاء بالمخلوق ، وإنما النزاع بينهم لفظي ] [57] .

                  فيقال : لك [58] . : إذا كان الله قد خلقه [ وأحدثه ] [59] . منفصلا عنه لم يكن كلامه ، فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من [ ص: 372 ] قامت به لا من خلقها في غيره وأحدثها [60] ، ولهذا إذا خلق الله حركة وعلما وقدرة في محل [61] كان ذلك المحل [62] هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ، ولم تكن تلك صفات لله [63] بل مخلوقات له ، ولو كان متصفا بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا أنطق الجامدات ، كما قال : ( ياجبال أوبي معه والطير ) [ سورة سبأ : 10 ] . وكما قال : ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ) [ سورة النور : 24 ] ، ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) [ سورة فصلت : 21 ] وكما قال : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) [ سورة يس : 65 ] ; ومثل تسليم الحجر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسبيح الحصى بيده ، وتسبيح الطعام وهم يأكلونه ، فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره ، وإذا تكلمت الأيدي فينبغي أن يكون ذاك كلام الله . كما يقولون : إنه خلق كلاما في الشجرة كلم به [64] موسى بن عمران .

                  وأيضا ، ، فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم  ، وهو المنطق لكل ناطق ، وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه ، وهذا قالته الحلولية [65] من الجهمية كصاحب " الفصوص " ابن عربي ، قال : [ ص: 373 ]

                  وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

                  [66] وحينئذ فيكون قول فرعون : ( أنا ربكم الأعلى ) [ سورة النازعات : 24 ] كلام الله ، كما أن الكلام المخلوق في الشجرة : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا ) [ سورة طه : 14 ] [ يقولون : إنه مخلوق في الشجرة ، أو غيرها ، وهو ] [67] كلام الله .

                  وأيضا ، فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ، ونادى ، وناجى ، ويقول ، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه ، بل الذي أفهموهم إياه [68] أن الله نفسه هو الذي تكلم ، والكلام قائم به لا بغيره ، ولهذا عاب [69] الله من يعبد إلها لا يتكلم فقال : ( أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ) [ سورة طه : 89 ] ، وقال : ( ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ) [ سورة الأعراف : 148 ] ولا يحمد شيء بأنه يتكلم ويذم بأنه لا يتكلم [70] إلا إذا كان الكلام قائما به .

                  وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام ، [ لا يعقل في لغة أحد - لا لغة الرسل ولا غيرهم - ولا في عقل أحد أن المتكلم يكون متكلما بكلام لم يقم به قط بل هو بائن عنه أحدثه في غيره ، كما لا يعقل أنه متحرك بحركة خلقها في غيره ، ولا يعقل أنه [ ص: 374 ] متلون بلون خلقه في غيره ، ولا متروح برائحة خلقها في غيره . وطرد ذلك أنه يعقل أنه مريد بإرادة أحدثها في غيره ، ولا محب وراض وغضبان وساخط برضى ومحبة وغضب وسخط خلقه في غيره .

                  وهؤلاء النفاة يصفونه بما لا يقوم به : تارة بما يخلقه في غيره كالكلام والإرادة ، وتارة بما لا يقوم به ولا بغيره كالعلم والقدرة ، وهذا أيضا غير معقول ] [71] ; فلا [72] يعقل حي إلا من تقوم به الحياة ، ولا عالم إلا من يقوم به العلم ، [ كما لا يعقل باتفاق العقلاء ] [73] متحرك إلا من تقوم به الحركة ، [ وطرد هذا أنه لا يعقل ] [74] فاعل إلا من يقوم به الفعل .

                  [ وقد سلم الأشعرية - ومن وافقهم كابن عقيل وغيره - فاعلا لا يقوم به الفعل : كعادل لا يقوم به العدل ، وخالق ورازق لا يقوم به الخلق والرزق .

                  وهذا مما احتجت به عليهم المعتزلة ، فقالوا : كما جاز أن يكون عادلا خالقا رازقا بعدل وخلق ورزق لا يقوم به ، فكذلك عالم وقادر ومتكلم .

                  والسلف رضي الله عنهم وجمهور أهل السنة يطردون أصلهم ، ولهذا احتج الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره على أن كلام الله غير مخلوق  بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أعوذ بكلمات الله تعالى التامات التي [ ص: 375 ] لا يجاوزهن بر ولا فاجر [75] " . قالوا : لا يستعاذ بمخلوق . وكذلك ثبت عنه أنه قال : " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك [76] . وقالوا : لا يستعاذ بمخلوق  ، وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرضا والمعافاة   ; فكان ذلك عند أئمة السنة مما يقوم بالرب تعالى كما تقوم به كلماته ، ليس من المخلوقات التي لا تكون إلا بائنة عنه ] [77] .

                  [ ص: 376 ] فمن قال : إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفصلا عنه ، [ والمريد والمحب والمبغض والراضي والساخط ما تكون إرادته ومحبته وبغضه ورضاه وسخطه بائنا عنه لا يقوم به بحال من الأحوال ] [78] ، قال ما لا يعقل ، ولم يفهم الرسل للناس هذا ، بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفصل ] عن الله وكذلك لم ترد بإرادته ومحبته ورضاه ونحو ذلك ما هو منفصل [ [79] عنه [80] بل ما [81] هو متصف به .

                  قالت الجهمية والمعتزلة [82] : المتكلم من فعل الكلام ، والله [ تعالى ] [83] لما أحدث الكلام في غيره صار متكلما .

                  فيقال : لهم : للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال [84] قيل : المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلا ، [ وهذا إنما قاله هؤلاء ] [85] .

                  وقيل : المتكلم من قام به الكلام ، ولو لم يكن بفعله [86] ولا [ هو ] بمشيئته و [ لا ] قدرته [87] ، وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم .

                  [ ص: 377 ] وقيل : المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته وقام به [ الكلام ] [88] ، وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم .

                  فأولئك يقولون : هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات . والصنف الثاني يقولون : صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته . والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل ، وهو قائم به متعلق [89] بمشيئته وقدرته . وإذا [90] كان كذلك فقولهم [91] : إنه صفة فعل ينازعهم [92] فيه طائفة وإذا لم ينازعوا في هذا ، فيقال : هب أنه صفة فعل منفصلة عن القائل الفاعل ، أو قائمة به [93] . أما الأول فهو قولكم الفاسد ، وكيف تكون الصفة غيره قائمة بالموصوف ، أو القول غير قائم بالقائل .

                  [ وقول القائل : الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل   - ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب كلام متناقض كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال ، بل هو مخلوق بائن عنه ؟

                  وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعا للمعتزلة فهو خطأ في نفسه ، فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع بين المتناقضين [ ص: 378 ] المتضادين ، بل حقيقة قول هؤلاء : إن الفعل لا يوصف به الرب ، فإن الفعل هو المخلوق ، والمخلوق لا يوصف به الخالق ، ولو كان الفعل الذي هو المفعول صفة له لكانت جميع المخلوقات صفات للرب ، وهذا لا يقوله : عاقل فضلا عن مسلم ] [94] .

                  فإن قلتم : هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به ، لأنه لو قام به لقامت به الحوادث .

                  قيل : والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل ، ويقولون : كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ، ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين [95] وبين المخلوق المكون ؟

                  وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة . وهو الذي حكاه البغوي [96] وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة ، وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا [97] وأبي بكر عبد العزيز [98] وأبي عبد الله بن حامد [99] [ والقاضي أبي يعلى في آخر قوليه ] [100] [ وهو ] قول [101] أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث ، [ وحكاه [ ص: 379 ] البخاري في كتاب " خلق أفعال العباد " عن العلماء مطلقا ] [102] وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم [103] . ثم القائلون بقيام فعله به ، منهم من يقول : فعله قديم والمفعول متأخر ، كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر ، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم ، [ وهو الذي ذكره الثقفي وغيره من الكلابية لما وقعت المنازعة بينهم وبين ابن خزيمة ] [104] .

                  [ ومنهم من يقول : بل هو حادث النوع ، كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية ] [105] .

                  ومنهم من يقول : هو يقع [106] بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا لكنه لم يزل متصفا به ، فهو حادث الآحاد قديم النوع ، كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد

                  وسائر الطوائف [ منهم من يقول : بل الخلق حادث قائم بالمخلوق ، كما يقوله هشام بن الحكم وغيره ، ومنهم من يقول : بل هو قائم بنفسه لا في محل  ، كما يقوله : أبو الهذيل العلاف وغيره ، ومنهم من يقول بمعان قائمة بنفسها لا تتناهى ، كما يقوله : معمر بن عباد [107] وغيره ] [108] . [ ص: 380 ] وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر [109] المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم ; فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون : هو قائم بذات الله فيقولون : قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم [110] ، فقلنا العدم لا يؤمر [111] ولا ينهى ، وقلنا : الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم .

                  فإن قلتم لنا : قد قلتم بقيام الحوادث بالرب . قالوا لكم [112] : نعم ، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ، ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ، ويريد ، ويحب ويبغض ويرضى ، ويأتي ويجيء ، فقد ناقض كتاب الله [ تعالى ] [113] . ومن قال : إنه لم يزل [114] ينادي موسى في الأزل ، فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل ، لأن الله يقول : ( فلما جاءها نودي ) [ سورة النمل : 8 ] ، وقال : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) [ سورة يس : 82 ] ، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال . قالوا : وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته [ وقدرته ] [115] ، وأنه يتكلم [116] إذا شاء ، وأنه يتكلم شيئا بعد شيء فنحن نقول به ، وما يقول به من يقول : إن كلام الله قائم بذاته ، وإنه صفة له ، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به ، وقد أخذنا [ ص: 381 ] بما في قول كل من الطائفتين من الصواب ، وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما .

                  فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم [117] أن تكون الحوادث قامت به . قلنا : ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل ، وهو قول لازم لجميع الطوائف ، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته . ولفظ " الحوادث " مجمل ، فقد يراد به الأمراض [118] والنقائص ، والله [ تعالى ] [119] منزه عن ذلك [ كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب ، وعن أن يئوده حفظ السماوات والأرض وغير ذلك مما هو منزه عنه بالنص والإجماع . ثم إن كثيرا من نفاة الصفات - المعتزلة وغيرهم - يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات ، أو قيام الحوادث به مطلقا ، وهو غلط منهم ، فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام ، ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال ] [120] . ولكن يقوم به ما يشاؤه [121] ويقدر عليه من كلامه وأفعاله [122] ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة .

                  [ ص: 382 ] ونحن [123] نقول لمن أنكر قيام ذلك به : أتنكره [124] لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة ؟ أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ، ونحو ذلك مما يقوله الكلابية ؟

                  فإن قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائما بالمتكلم لا منفصلا عنه [125] كافيا في هذا الباب . وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء [126] : أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا ؟ فإن جوزتم ذلك - وهو قولكم - لزم أن يفعل الحوادث من [127] لم يكن فاعلا لها ولا لضدها [128] فإذا جاز هذا [ فلم ] لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن [129] قائمة به هي ولا ضدها ؟

                  ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول [130] ، فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل [131] ، فإن قلتم : القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده . ( 10 قلنا : هذا ممنوع ولا دليل لكم عليه 10 ) [132] ، [ ثم إذا سلم ذلك فهو كقول [ ص: 383 ] القائل : القدر على الشيء لا يخلو عن فعله وفعل ضده ، وأنتم تقولون : إنه لم يزل قادرا ، ولم يكن فاعلا ولا تاركا ، لأن الترك عندكم أمر وجودي مقدور ، وأنتم تقولون : لم يكن فاعلا لشيء من مقدوراته في الأزل مع كونه قادرا ، بل تقولون : إنه يمتنع وجود مقدوره في الأزل مع كونه قادرا عليه .

                  وإذا كان هذا قولكم فلأن لا يجب وجود المقبول في الأزل بطريق الأولى والأحرى ، فإن هذا المقبول مقدور لا يوجد إلا بقدرته ، وأنتم تجوزون وجود قادر مع امتناع مقدوره في حال كونه قادرا ] [133] .

                  ( 2 ثم نقول : إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده 2 ) [134] لزم تسلسل الحوادث ، وتسلسل الحوادث إن كان ممكنا كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون : لم يزل متكلما إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة . وإن لم يكن جائزا [ أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائما به ، كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا لها ] [135] وكان [136] قولنا هو الصحيح ، فقولكم أنتم باطل على [ كلا ] [137] التقديرين . فإن قلتم لنا : أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث ، وهو حجتنا وحجتكم على [ نفي ] [138] قدم العالم . [ ص: 384 ] قلنا لكم : موافقتنا لكم حجة جدلية ، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم ، وقلنا [139] بأن القابل [140] للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم . وأنتم تقولون : إن قبل الحوادث [141] لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك [142] .

                  قلنا : إن صحت هاتان المقدمتان - ونحن لا نقول بموجبهما [143] - لزم خطؤنا : إما في هذه وإما في هذه . وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه ، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في قولنا : إن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده ، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلا على صوابكم [144] في الأخرى التي خالفناكم فيها .

                  أكثر ما في هذا [145] الباب [ أنا نكون ] [146] متناقضين ، والتناقض [147] شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها . وإذا كنا متناقضين ، فرجوعنا إلى قول نوافق [ فيه ] العقل والنقل [148] ، أولى من رجوعنا إلى قول [ ص: 385 ] نخالف فيه العقل والنقل . فالقول بأن المتكلم يتكلم [149] بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته ، أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل ، بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلا ولا نقلا ، لكن قد نكون [ نحن ] [150] لم نقله بلوازمه فنكون متناقضين ، وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه ، لا نرجع عن الصواب لنطرد [151] الخطأ ، فنحن نرجع عن تلك [ المناقضات ] [152] ونقول بقول أهل الحديث .

                  فإن قلتم : إثبات حادث بعد حادث [153] لا إلى أول [154] قول الفلاسفة الدهرية . ( * قلنا : بل قولكم : إن الرب تعالى لم يزل معطلا لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئا ، ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل [155] بلا حدوث سبب يقتضي ذلك ، قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون ، فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادرا ، وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعا غير ممكن جمع بين النقيضين ، فكان فيما عليه [ ص: 386 ] المسلمون من أنه لم يزل قادرا ما يبين أنه لم يزل قادرا على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته [156] .

                  والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته  منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم ، كابن المبارك [157] وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم ، وهو منقول عن جعفر بن محمد الصادق في الأفعال المتعدية - فضلا عن اللازمة - وهو دوام إحسانه [158] ، * ) [159] [ وذلك قوله : وقول المسلمين : يا قديم الإحسان إن عني بالقديم قائم به ] [160] .

                  والفلاسفة الدهرية قالوا : بقدم [ الأفلاك وغيرها من ] [161] العالم ، وأن الحوادث فيه لا إلى أول ، وأن البارئ موجب بذاته للعالم [162] ليس فاعلا بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه . [ ومعلوم بالاضطرار من دين الرسل أن الله تعالى خالق كل شيء ، ولا يكون المخلوق إلا محدثا ، فمن جعل مع الله شيئا قديما بقدمه فقد علم مخالفته لما أخبرت به الرسل مع مخالفته لصريح العقل ] [163] . وأنتم وافقتموهم [164] على طائفة من باطلهم حيث قلتم : إنه لا يتصرف [ ص: 387 ] بنفسه ، ولا يقوم به أمر يختاره ويقدر عليه ، بل جعلتموه [165] كالجماد الذي لا تصرف [166] ( * له ولا فعل ، وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف * ) [167] فيه ، فوافقتموهم على بعض باطلهم . ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته ، وأنه قادر على الفعل بنفسه [ وعلى التكلم بنفسه ] [168] كيف شاء ، وقلنا : إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء [169] ، فلا نقول : إن كلامه مخلوق منفصل عنه ، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم ، ولا نقول : إن كلامه شيء واحد [170] : أمر ونهي وخبر ( * وأن معنى التوراة والإنجيل واحد ، وأن الأمر والنهي صفة لشيء واحد * ) [171] ، فإن هذا مكابرة للعقل [172] ، ولا نقول : إنه أصوات مقطعة [173] متضادة أزلية ، فإن الأصوات لا تبقى زمانين . وأيضا ، فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله [ ص: 388 ] للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق إدراك [174] لهم لما كان أزليا لم يزل . ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك ، ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما ، فإن هذا وصف له [175] بالكمال بعد النقص ، وأنه صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه . ثم حدوث ذلك الكمال [176] لا بد له من سبب ، [ والقول في الثاني كالقول في الأول ففيه تجدد ( * كمال بلا سبب ] [177] ، ووصف له بالنقص الدائم من الأزل إلى أن تجدد له ما لا سبب لتجدده [178] ، وفي ذلك تعطيل له عن صفات الكمال .

                  وأما دوام الحوادث فمعناه [ هنا ] [179] دوام كونه متكلما [180] إذا شاء ، وهذا دوام كماله ونعوت * ) [181] جلاله ودوام أفعاله ، وبهذا يمكن أن يكون العالم ، وكل ما فيه مخلوق له حادث [182] بعد أن لم يكن ، لأنه يكون سبب الحدوث هو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله [183] وغير ذلك ، فيعقل [ ص: 389 ] سبب [184] حدوث الحوادث ، ويمتنع مع هذا [185] أن يقال : بقدم شيء من العالم ، لأنه لو كان قديما لكان مبدعه [186] موجبا بذاته ليلزمه [187] موجبه ومقتضاه ، وإذا كان الخالق فاعلا بفعل يقول بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجبا بذاته لشيء من الأشياء ، فامتنع قدم شيء من العالم ، وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئا منفصلا [ عنه ] [188] مقارنا له مع أنه لا يقوم به فعل اختياري ، فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى ، لأنه على هذا التقدير ( * لا يوجد المفعول حتى يوجد الفعل الاختياري الذي حصل بقدرته ومشيئته ، وعلى التقدير * ) [189] الأول يكفي فيه نفس المشيئة والقدرة والفعل الاختياري [190] .

                  [ ومعلوم أن ما توقف على المشيئة والقدرة ] [191] والفعل الاختياري القائم به يكون ، أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف [192] إلا على بعض ذلك .

                  والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع ، وأكثر الناس [ ص: 390 ] لا يعلمون كثيرا من هذه الأقوال ; ولذلك كثر بينهم القيل والقال ، وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب . [193] [ والأصل الذي باين به أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، من أهل البيت وغيرهم وسائر أئمة المسلمين للجهمية والمعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات : أن الرب تعالى إنما يوصف بما يقوم به ، لا يوصف بمخلوقاته ، وهو أصل مطرد عند السلف والجمهور   . ولكن المعتزلة استضعفت الأشعرية - ومن وافقهم - بتناقضهم في هذا الأصل حيث وصفوه بالصفات الفعلية مع أن الفعل لا يقوم به عندهم . والأشعري تبع في ذلك للجهمية والمعتزلة الذين نفوا قيام الفعل به ، لكن أولئك ينفون الصفات أيضا ، بخلاف الأشعرية .

                  والمعتزلة لهم نزاع في الخلق : هل هو المخلوق ، أو غير المخلوق ؟ وإذا قالوا : هو غير المخلوق ، فقد يقولون : معنى قائم لا في محل ، كما تقوله البصريون في الإرادة . وقد يقولون : معاني لا نهاية لها في آن واحد . كما يقوله معمر منهم وأصحابه ، ويسمون أصحاب المعاني ، وقد يقولون : إنه قائم بالمخلوق .

                  وحجة الأشعري ومن وافقه على أن الخلق هو المخلوق ، أنهم قالوا : لو كان غيره لكان إما قديما وإما محدثا ، فإن كان قديما لزم قدم المخلوق ، وهو محال بالاضطرار فيما علم حدوثه بالاضطرار ، والدليل فيما علم حدوثه بالدليل . وإن كان محدثا كان مخلوقا ، فافتقر الخلق إلى [ ص: 391 ] خلق ثان ولزم التسلسل ، وأيضا ، فيلزم قيام الحوادث به ، وهذا عمدتهم في نفس الأمر .

                  والرازي لم يكن له خبرة بأقوال طوائف المسلمين ، إلا بقول المعتزلة والأشعرية وبعض أقوال الكرامية والشيعة ، فلهذا لما ذكر هذه المسألة ذكر الخلاف فيها مع فقهاء ما وراء النهر ، وقول هؤلاء هو قول جماهير طوائف المسلمين .

                  والجمهور لهم في الجواب عن عمدة هؤلاء طرق : كل قوم بحسبهم . فطائفة قالت : بل الخلق الذي هو التكوين والفعل قديم والمكون المفعول محدث لأن ( الخلق ) [194] عندهم لا تقوم به الحوادث ، وهذا قول كثير من هؤلاء من الحنفية والحنبلية والكلابية والصوفية وغيرهم . فإذا قالوا لهؤلاء : فيلزم قدم المكون قالوا : نقول في ذلك مثل ما قلتم في الإرادة الأزلية ، قلتم : هي قديمة فإن [195] كان المراد محدثا ، كذلك التكوين قديم ، وإن كان المكون محدثا .

                  وطائفة قالت : بل الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه  ، وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والفقه والتصوف . قالوا : لأن الله ذكر وجود أفعاله شيئا بعد شيء كقوله تعالى : ( خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) [ سورة الأعراف : 54 ] وقوله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ سورة فصلت 11 ] ، وقوله : [ ص: 392 ] ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) [ سورة الأعراف : 11 ] وقوله : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ سورة المؤمنون : 12 - 14 ] ، وأمثال ذلك .

                  وهؤلاء يلتزمون أنه تقوم به الأمور الاختيارية ، كخلقه ورضاه وغضبه وكلامه وغير ذلك مما دلت عليه النصوص . وفي القرآن أكثر من ثلاثمائة موضع توافق قولهم ، وأما الأحاديث فكثيرة جدا ، والآثار عن السلف بذلك متواترة ، وهو قول أكثر الأساطين من الفلاسفة . ثم هؤلاء في التسلسل على قولين ، وهم يقولون : المخلوق يحصل بالخلق ، والخلق يحصل بقدرته ومشيئته ، لا يحتاج إلى خلق آخر . 0 ويقولون لمنازعيهم : إذا جاز عندكم وجود المخلوقات المنفصلة بمجرد القدرة والمشيئة من غير فعل قائم به ، فلأن يجوز الفعل بمجرد القدرة الإرادة أولى وأحرى . ومن لم يقل بالتسلسل منهم يقول : نفس القدرة القديمة والإرادة القديمة أوجبت ما حدث من الفعل والإرادة وبذلك يحصل المخلوق فيما لا يزال .

                  ومن قال بالتسلسل منهم قال : التسلسل الممتنع إنما هو التسلسل في المؤثرات ، وهو أن يكون للفاعل فاعل ، وهلم جرا إلى غير نهاية ، سواء عبر عن ذلك بأن للعلة علة وللمؤثر مؤثرا ، أو عبر عنه بأن للفاعل فاعلا ، [ ص: 393 ] فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل  ، ولهذا كان هذا ممتنعا باتفاق العقلاء ، كما أن الدور الممتنع هو الدور القبلي .

                  فأما التسلسل في الآثار وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره ، أو لا يكون إلا ويكون بعد غيره فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال : قيل : هو ممتنع في الماضي والمستقبل . وقيل : بل هو جائز في الماضي والمستقبل . وقيل ممتنع في الماضي جائز في المستقبل . والقول بجوازه مطلقا هو معنى قول السلف وأئمة الحديث وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث هذا العالم والقائلين بقدمه . وقد بسط الكلام على أدلة الطائفتين في موضع آخر ، فإنا قد بسطنا الكلام فيما ذكره من أصول الدين أضعاف ما تكلم به هو ونبهنا على مجامع الأقوال ] [196]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية