المجلس الثالث
في ذكر المعراج
الحمد لله فالق الحب والنوى ، وخالق العبد وما نوى ، المطلع على باطن الضمير وما حوى ، بمشيئته رشد من رشد وغوى من غوى ، وبإرادته فسد ما فسد واستوى ما استوى ، صرف من شاء إلى الهدى وعطف من شاء إلى الهوى ، قرب موسى نجيا وقد كان مطويا من شدة الطوى ، فمنحه فلاحا وكلمه كفاحا وهو بالواد المقدس طوى ، وعرج بمحمد إليه فرآه بعينيه ثم عاد وفراشه ما انطوى . فأخبر بقربه من ربه وحدث بما رأى وروى ، فأقسم على تصديقه من حرسه بتوفيقه عن قوى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى .
أحمده على صرف الهم والجوى ، حمد من أناب وارعوى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما نشر وطوى ، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله وعود الهدى قد ذوى ، فسقاه ماء المجاهدة حتى ارتوى ، صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبه إن رحل أو ثوى ، وعلى أبي بكر الصديق الفاروق الذي وسم بجده جبين كل جبار وكوى ، وعلى الصابر على الشهادة ساكنا ما التوى ، وعلى ذي النورين الذي زهد في الدنيا فباعها وما احتوى ، وعلى عمه علي الذي منع الله به الخلافة عن غير نبيه وزوى . العباس
والنجم إذا هوى .
هذا قسم . وفي النجم خمسة أقوال :
أحدها أنه الثريا . رواه قال الله عز وجل : العوفي عن قال ابن عباس . ابن قتيبة : والعرب تسمي الثريا وهي ستة أنجم نجما . وقال غيره : هي سبعة أنجم ، فستة ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم .
والثاني : الرجوم من النجوم ، وهي ما يرمى به الشياطين . رواه عن عكرمة ابن عباس .
والثالث : أنه القرآن نزل نجوما متفرقة . رواه عن عطاء وقال ابن عباس . مقاتل : كان ينزل نجوما ، ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك .
والرابع : نجوم السماء كلها . روي عن فعلى هذا هو اسم جنس . مجاهد .
[ ص: 432 ] والخامس : أنها الزهرة قاله السدي . فعلى قول من قال : النجم هو الثريا يكون هوى بمعنى غاب . ومن قال : هي الرجوم يكون هويها في رجم الشياطين ومن قال القرآن يكون هوى نزل . ومن قال نجوم السماء كلها ففيه قولان : أحدهما أن هويها حين تغيب . والثاني : أن تنتثر يوم القيامة .
قوله تعالى : ما ضل صاحبكم هذا جواب القسم . والمعنى : ما ضل عن طريق الهدى والمراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما غوى .
قوله وما ينطق عن الهوى أي ما يتكلم بالباطل . وقال أبو عبيدة : عن بمعنى الباء . وذلك أنهم قالوا : إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه .
إن هو أي ما القرآن إلا وحي من الله يوحى علمه شديد القوى أي علم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم . وكان من قوته أنه قلع قريات قوم لوط وحملها على جناحه فقلبها عليهم . وصاح بثمود فأصبحوا خامدين .
فاستوى وهو بالأفق الأعلى فيه قولان : أحدهما فاستوى جبريل ، وهو يعني النبي صلى الله عليه وسلم . والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم . قاله والثاني : فاستوى الفراء . جبريل وهو ، يعني جبريل ، بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية ، لأنه كان يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل ، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق فيكون المعنى : فاستوى جبريل بالأفق الأعلى في صورته قاله والأفق الأعلى : مطلع الشمس وإنما قيل له الأعلى لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء . الزجاج .
قوله تعالى : ثم دنا فتدلى قال دنا : بمعنى قرب . وتدلى : زاد في القرب ومعنى اللفظين واحد . الزجاج
وفي المشار إليه بقوله : ثم دنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الله . روى البخاري في الصحيحين من حديث ومسلم عن شريك بن أبي نمر قال : " ثم دنا الجبار رب العزة " وقد قال أنس الخطابي : هذا من غلط شريك راوي أنس .
قال قلت : وإذا كان الدنو لا على ما يعقل في الأجسام كان المراد به [ ص: 433 ] القرب المذكور في قوله تعالى : ابن الجوزي : " فإن قيل : كيف يصح هذا وقد حصر قدر المسافة ؟ قلنا : إنه مثل بأقرب الأشياء كما قال : " من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ونحن أقرب إليه من حبل الوريد .
والثاني : ثم دنا محمد من ربه . قاله ابن عباس .
والثالث : أن جبريل دنا من محمد . قاله الحسن .
والقاب : القدر . وقال ابن فارس : القاب ما بين المقبض والسية ، وهي ما عطف من طرفي القوس . وقال ابن قتيبة : قدر قوسين . وقال الكسائي : أراد بالقوسين قوسا واحدا .
أو أدنى بل أدنى . فأوحى الله عز وجل إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى قال رأى ربه عز وجل والمعنى : ما أوهمه فؤاده أنه رأى ولم ير . ابن عباس :
ولقد رآه نزلة أخرى قال رأى ابن عباس : محمد ربه . وبيان هذا : أنه لما تردد لأجل الصلوات رأى ربه مرة أخرى . وقال كعب : قسم الله عز وجل كلامه ورؤيته بين محمد وموسى فرآه محمد مرتين ، وكلمه موسى مرتين .
قوله تعالى : عند سدرة المنتهى السدرة : شجرة النبق وهي فوق السماء السابعة . وهو في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة . وقد روى في صحيحه عن مسلم أنها في السماء السادسة . وإنما سميت بسدرة المنتهى لأن إليها ينتهي ما يصعد به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، وإليها ينتهي علم الملائكة . ابن مسعود
عندها جنة المأوى قال هي عن يمين العرش وهي منزل الشهداء . ابن عباس :
إذ يغشى السدرة ما يغشى قال غشيها فراش من ذهب ابن مسعود : ما زاغ البصر أي ما عدل بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا وما طغى أي ما جاوز ما رأى .
[ ص: 434 ] وهذا كان في ليلة المعراج . واتفق العلماء على أن هذا المعراج كان بمكة قبل الهجرة ، واختلفوا في المدة التي كانت بينهما على أربعة أقوال : أحدها : سنة قاله والثاني : ستة أشهر . قاله ابن عباس . السدي . والثالث : ثمانية عشر شهرا . قاله الواقدي . ذكر هذه الأقوال عنهم والرابع : ثمانية أشهر . أبو حفص بن شاهين .