الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة الثامنة عشرة

          اتفق العلماء على أن كل واحد من المذكر والمؤنث لا يدخل في الجمع الخاص بالآخر كالرجال والنساء ، وعلى دخولهما في الجمع الذي لم تظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث كالناس .

          وإنما وقع الخلاف بينهم في الجمع الذي ظهرت فيه علامة التذكير كالمسلمين والمؤمنين : هل هو ظاهر في دخول الإناث فيه أو لا ؟ فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه .

          وذهبت الحنابلة وابن داود [1] وشذوذ من الناس إلى إثباته .

          [ ص: 266 ] احتج النافون بالكتاب والسنة والمعقول ، أما الكتاب فقوله تعالى : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ) عطف جمع التأنيث على جمع المسلمين والمؤمنين ، ولو كان داخلا فيه لما حسن عطفه عليه لعدم فائدته .

          وأما السنة فما روي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله : إن النساء قلن ما نرى الله ذكر إلا الرجال ، فأنزل الله : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآية [2] .

          ولو كن قد دخلن في جمع التذكير ، لكن مذكورات وامتنعت صحة السؤال والتقرير عليه .

          وأيضا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضئون " فقالت عائشة : هذا للرجال فما للنساء ؟ [3] ولولا خروجهن من جمع الذكور لما صح السؤال ولا التقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم .

          وأما المعقول فهو أن الجمع تضعيف الواحد ، فقولنا : قام لا يتناول المؤنث بالإجماع ، فالجمع الذي هو تضعيفه كقولنا : قاموا لا يكون متناولا له .

          فإن قيل : أما الآية فالعطف فيها لا يدل على عدم دخول الإناث في جمع التذكير .

          قولكم لا فائدة فيه ليس كذلك إذ المقصود منه إنما هو الإتيان بلفظ يخصهن تأكيدا فلا يكون عريا عن الفائدة .

          وأما سؤال أم سلمة وعائشة فلم يكن لعدم دخول النساء في جمع الذكور ، بل لعدم تخصيصهن بلفظ صريح فيهن كما ورد في المذكر .

          وأما قولكم : إن الجمع تضعيف الواحد فمسلم ، ولكن لم قلتم بامتناع دخول المؤنث فيه مع أنه محل النزاع ؟ .

          والذي يدل على دخول المؤنث في جمع التذكير ثلاثة أمور : [ ص: 267 ] الأول : أن المألوف من عادة العرب أنه إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلبوا جانب التذكير .

          ولهذا فإنه يقال : للنساء إذا تمحضن : ادخلن ، وإن كان معهن رجل قيل : ادخلوا .

          قال الله - تعالى - لآدم وحواء وإبليس : ( قلنا اهبطوا منها جميعا ) كما ألف منهم تغليب جمع من يعقل إذا كان معه من لا يعقل .

          ومنه قوله تعالى : ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ) ، بل أبلغ من ذلك أنهم إذا وصفوا ما لا يعقل بصفة من يعقل غلبوا فيه من يعقل .

          ومنه قوله تعالى : ( أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) جمعهم جمع من يعقل لوصفهم بالسجود الذي هو صفة من يعقل .

          وكتغليبهم الكثرة على القلة حتى إنهم يصفون بالكرم والبخل جمعا أكثرهم متصف بالكرم أو البخل .

          وكتغليبهم في التثنية أحد الاسمين على الآخر كقولهم : ( الأسودان ) للتمر ظاهرا ، والعمران لأبي بكر وعمر ، والقمران للشمس والقمر .

          الثاني : أنه يستهجن من العربي أن يقول لأهل حلة أو قرية : أنتم آمنون ونساؤكم آمنات لحصول الأمن للنساء بقوله : أنتم آمنون ، ولولا دخولهن في قوله : أنتم آمنون لما كان كذلك .

          وكذلك لا يحسن منه أن يقول لجماعة فيهم رجال ونساء : قوموا وقمن ، بل لو قال : قوموا كان ذلك كافيا في الأمر للنساء بالقيام .

          ولولا دخولهن في جمع التذكير لما كان كذلك .

          الثالث : أن أكثر أوامر الشرع بخطاب المذكر مع انعقاد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في أحكام تلك الأوامر ، ولو لم يدخلن في ذلك الخطاب لما كان كذلك .

          والجواب قولهم في الآية : فائدة التخصيص بلفظ يخصهن التأكيد .

          قلنا : لو اعتقدنا عدم دخولهن في جمع التذكير كانت فائدة تخصيصهن بالذكر التأسيس ، ولا يخفى أن فائدة التأسيس أولى في كلام الشارع .

          قولهم : سؤال أم سلمة وعائشة إنما كان لعدم تخصيص النساء بلفظ يخصهن ، لا لعدم دخول النساء في جمع التذكير ليس كذلك ، أما سؤال أم سلمة فهو صريح في عدم الذكر مطلقا لا في عدم ذكر ما يخصهن بحيث قالت : ما نرى الله ذكر إلا الرجال ، ولو ذكر النساء ، ولو بطريق الضمن لما صح هذا الإخبار [ ص: 268 ] على إطلاقه .

          وأما حديث عائشة فلأنها قالت : هذا للرجال ، ولو كان الحكم عاما لما صح منها تخصيص ذلك بالرجال .

          قولهم : المألوف من عادة العرب تغليب جانب التذكير ؛ مسلم ، ونحن لا ننازع في أن العربي إذا أراد أن يعبر عن جمع فيهم ذكور وإناث أنه يغلب جانب التذكير ويعبر بلفظ التذكير ، ويكون ذلك من باب التجوز ، وإنما النزاع في أن جمع التذكير إذا أطلق هل يكون ظاهرا في دخول المؤنث ومستلزما له أو لا ؟ وليس فيما قيل ما يدل على ذلك .

          وهذا كما أنه يصح التجوز بلفظ الأسد عن الإنسان ، ولا يلزم أن يكون ظاهرا فيه مهما أطلق .

          فإن قيل : إذا صح دخول المؤنث في جمع المذكر فالأصل أن يكون مشعرا به حقيقة لا تجوزا .

          قلنا : ولو كان جمع التذكير حقيقة للذكور والإناث مع انعقاد الإجماع على أنه حقيقة في تمحض الذكور كان اللفظ مشتركا ، وهو خلاف الأصل .

          فإن قيل : ولو كان مجازا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد لدخول المسمى الحقيقي فيه وهم الذكور ، وهو ممتنع .

          قلنا : ليس كذلك ، فإنه لا يكون حقيقة في الذكور إلا مع الاقتصار .

          وأما إذا كان جزءا من المذكور لا مع الاقتصار فلا .

          كيف وإنا لا نسلم امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز كما سبق تقريره ؟

          وأما الوجه الثاني فإنما استهجن من العربي أن يقول : أنتم آمنون ونساؤكم آمنات ؛ لأن تأمين الرجال يستلزم الأمن من جميع المخاوف المتعلقة بأنفسهم وأموالهم ونسائهم ، فلو لم تكن النساء آمنات لما حصل أمن الرجال مطلقا ، وهو تناقض .

          أما أن ذلك يدل على ظهور دخول النساء في الخطاب فلا ، وبه يظهر لزوم أمن النساء من الاقتصار على قوله للرجال : أنتم آمنون .

          وأما الوجه الثالث فغير لازم ، وذلك أن النساء وإن شاركن الرجال في كثير من أحكام التذكير ، فيفارقن للرجال في كثير من الأحكام الثابتة بخطاب التذكير ، كأحكام الجهاد في قوله - تعالى - : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) وأحكام الجمعة في قوله - تعالى - : [ ص: 269 ] ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) إلى غير ذلك من الأحكام .

          ولو كان جمع التذكير مقتضيا لدخول الإناث فيه لكان خروجهن عن هذه الأوامر على خلاف الدليل ، وهو ممتنع فحيث وقع الاشتراك تارة والافتراق تارة علم أن ذلك إنما هو مستند إلى دليل خارج ، لا إلى نفس اقتضاء اللفظ لذلك .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية