القاعدة الأولى
في تحقيق مفهوم أصول الفقه ، وتعريف موضوعه وغايته ، وما فيه من البحث عنه من مسائله ، وما منه استمداده وتصوير مباديه ، وما لا بد من سبق معرفته قبل الخوض فيه .
فنقول : حق على كل من حاول تحصيل علم من العلوم أن يتصور معناه أولا بالحد أو الرسم ؛ ليكون على بصيرة فيما يطلبه ، وأن يعرف موضوعه - وهو الشيء الذي يبحث في ذلك العلم عن أحواله العارضة له - تمييزا له عن غيره ، وما هو الغاية المقصودة من تحصيله ؛ حتى لا يكون سعيه عبثا ، وما عنه البحث فيه من الأحوال التي هي مسائله لتصور طلبها ، وما منه استمداده لصحة إسناده عند روم تحقيقه إليه ، وأن يتصور مباديه التي لا بد من سبق معرفتها فيه لإمكان البناء عليها .
أما
nindex.php?page=treesubj&link=20473مفهوم أصول الفقه ، فنقول : اعلم أن قول القائل " أصول الفقه " قول مؤلف من مضاف هو الأصول ، ومضاف إليه هو الفقه ، ولن نعرف المضاف قبل معرفة المضاف إليه ، فلا جرم أنه يجب تعريف معنى الفقه أولا ثم معنى الأصول ثانيا .
[ ص: 6 ] أما الفقه : ففي اللغة عبارة عن الفهم ، ومنه قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91ما نفقه كثيرا مما تقول ) أي لا نفهم ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) أي لا تفهمون ، وتقول العرب : فقهت كلامك ، أي فهمته .
وقيل : هو العلم ، والأشبه أن الفهم مغاير للعلم ; إذ الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب ، وإن لم يكن المتصف به عالما كالعامي الفطن . وأما العلم فسيأتي تحقيقه عن قريب . وعلى هذا فكل عالم فهم وليس كل فهم عالما .
وفي عرف المتشرعين : الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال .
فالعلم احتراز عن الظن بالأحكام الشرعية ، فإنه وإن تجوز بإطلاق اسم الفقه عليه في العرف العامي ، فليس فقها في العرف اللغوي والأصولي ، بل الفقه العلم بها أو العلم بالعمل بها بناء على الإدراك القطعي ، وإن كانت ظنية في نفسها .
وقولنا : " بجملة من الأحكام الشرعية " احتراز عن العلم بالحكم الواحد أو الاثنين ، فإنه لا يسمى في عرفهم فقها .
وإنما لم نقل بالأحكام ; لأن ذلك يشعر بكون الفقه هو العلم بجملة الأحكام ، ويلزم منه أن لا يكون العلم بما دون ذلك فقها وليس كذلك .
وقولنا : ( الشرعية ) احتراز عما ليس بشرعي ، كالأمور العقلية والحسية .
وقولنا : ( الفروعية ) احتراز عن العلم بكون أنواع الأدلة حججا ، فإنه ليس فقها في العرف الأصولي ، وإن كان المعلوم حكما شرعيا نظريا لكونه غير فروعي .
وقولنا : ( بالنظر والاستدلال ) احتراز عن علم الله تعالى بذلك ، وعلم
جبريل والنبي عليه السلام فيما علمه بالوحي ، فإن علمهم بذلك لا يكون فقها في
[ ص: 7 ] العرف الأصولي ; إذ ليس طريق العلم في حقهم بذلك النظر والاستدلال .
[1] وأما أصول الفقه : فاعلم أن أصل كل شيء هو ما يستند تحقيق ذلك الشيء إليه .
فأصول الفقه هي أدلة الفقه وجهات دلالاتها على الأحكام الشرعية ، وكيفية حال المستدل بها من جهة الجملة
[2] لا من جهة التفصيل ، بخلاف الخاصة المستعملة في آحاد المسائل الخاصة .
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى
فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَتَعْرِيفِ مَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ مِنْ مَسَائِلِهِ ، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ وَتَصْوِيرُ مَبَادِيهِ ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهِ قَبْلَ الْخَوْضِ فِيهِ .
فَنَقُولُ : حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ حَاوَلَ تَحْصِيلَ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَعْنَاهُ أَوَّلًا بِالْحَدِّ أَوِ الرَّسْمِ ؛ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يَطْلُبُهُ ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ - وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ الْعَارِضَةِ لَهُ - تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَمَا هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ تَحْصِيلِهِ ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ سَعْيُهُ عَبَثًا ، وَمَا عَنْهُ الْبَحْثُ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَسَائِلُهُ لِتَصَوُّرِ طَلَبِهَا ، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ عِنْدَ رَوْمِ تَحْقِيقِهِ إِلَيْهِ ، وَأَنْ يَتَصَوَّرَ مَبَادِيَهُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهَا فِيهِ لِإِمْكَانِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا .
أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=20473مَفْهُومُ أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَنَقُولُ : اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " أُصُولُ الْفِقْهِ " قَوْلٌ مُؤَلَّفٍ مِنْ مُضَافٍ هُوَ الْأُصُولُ ، وَمُضَافٍ إِلَيْهِ هُوَ الْفِقْهُ ، وَلَنْ نَعْرِفَ الْمُضَافَ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُ مَعْنَى الْفِقْهِ أَوَّلًا ثُمَّ مَعْنَى الْأُصُولِ ثَانِيًا .
[ ص: 6 ] أَمَّا الْفِقْهُ : فَفِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَهْمِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ) أَيْ لَا نَفْهَمُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) أَيْ لَا تَفْهَمُونَ ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ : فَقِهْتُ كَلَامَكَ ، أَيْ فَهِمْتُهُ .
وَقِيلَ : هُوَ الْعِلْمُ ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْفَهْمَ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ ; إِذِ الْفَهْمُ عِبَارَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهْيِئَتِهِ لِاقْتِنَاصِ كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَطَالِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُتَّصِفُ بِهِ عَالِمًا كَالْعَامِّيِّ الْفَطِنِ . وَأَمَّا الْعِلْمُ فَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عَنْ قَرِيبٍ . وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ عَالِمٍ فَهِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَهِمٍ عَالِمًا .
وَفِي عُرْفِ الْمُتَشَرِّعِينَ : الْفِقْهُ مَخْصُوصٌ بِالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفُرُوعِيَّةِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
فَالْعِلْمُ احْتِرَازٌ عَنِ الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تُجُوِّزَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْفِقْهِ عَلَيْهِ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّيِّ ، فَلَيْسَ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ اللُّغَوِيِّ وَالْأُصُولِيِّ ، بَلِ الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِهَا أَوِ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ بِهَا بِنَاءً عَلَى الْإِدْرَاكِ الْقَطْعِيِّ ، وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً فِي نَفْسِهَا .
وَقَوْلُنَا : " بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ " احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ فِقْهًا .
وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ بِالْأَحْكَامِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمَ بِجُمْلَةِ الْأَحْكَامِ ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِقْهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُنَا : ( الشَّرْعِيَّةُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ ، كَالْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ .
وَقَوْلُنَا : ( الْفُرُوعِيَّةُ ) احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ حُجَجًا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ حُكْمًا شَرْعِيًّا نَظَرِيًّا لِكَوْنِهِ غَيْرَ فُرُوعِيٍّ .
وَقَوْلُنَا : ( بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ) احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ ، وَعِلْمِ
جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا عَلِمَهُ بِالْوَحْيِ ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ فِقْهًا فِي
[ ص: 7 ] الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ ; إِذْ لَيْسَ طَرِيقُ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمْ بِذَلِكَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
[1] وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ : فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مَا يَسْتَنِدُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ .
فَأُصُولُ الْفِقْهِ هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ وَجِهَاتُ دَلَالَاتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَكَيْفِيَّةُ حَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ
[2] لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ ، بِخِلَافِ الْخَاصَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ .