الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم نصا صريحا عن شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة إخراج القيمة في زكاة الفطر بخصوصها، إلا نصَّ برهان الدين ابن القيم في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية (بتحقيق سامي جاد الله) حيث ذكر هذه المسألة في القسم الثالث مما نُسِبَ لشيخ الإسلام الانفراد به، وقد عرف البرهان هذا القسم بقوله: "ما هو خارج عن مذهب الإمام أحمد -رضي الله عنه- الذي اشتهر هو -أعني شيخ الإسلام- بالنسبة إليه، لكن قد قال به غيره من الأئمة وأتباعهم". فقال: يجوز إخراج القيمة في زكاة المال وزكاة الفطر إذا كان أنفع للمساكين ... يجوز إخراج القيمة مطلقًا. اهـ.
وهذه العبارة "زكاة المال وزكاة الفطر إذا كان أنفع للمساكين" محل تحرير، ونصها في الطبعة التي نشرها الشيخ بكر أبو زيد: "يجوز إخراج القيمة في الزكاة مطلقا". اهـ.
وقال ابن عبد الهادي في اختيارات شيخ الإسلام: وذهب إلى أن إخراج القيمة في الزكاة للحاجة أو للمصلحة الراجحة جائز. اهـ.
وعلى أية حال، فالمفهوم من كلام شيخ الإسلام في باب الزكاة عموما هو جوازُ إخراج القيمة للحاجة والمصلحة، فقد سئل رحمه الله تعالى عن تاجر هل يجوز أن يخرج من زكاته الواجبة عليه صنفا يحتاج إليه؟
فأجاب:الحمد لله، إذا أعطاه دراهم أجزأ بلا ريب. وأما إذا أعطاه القيمة ففيه نزاع: هل يجوز مطلقا؟ أو لا يجوز مطلقا؟ أو يجوز في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول أعدل الأقوال. اهـ.
وسئل عمن أخرج القيمة في الزكاة؛ فإنه كثيرا ما يكون أنفع للفقير: هل هو جائز؟ أم لا؟
فأجاب: وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك. فالمعروف من مذهب مالك والشافعي أنه لا يجوز. وعند أبي حنيفة يجوز. وأحمد رحمه الله قد منع القيمة في مواضع وجوزها في مواضع ... والأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه ... وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به. اهـ.
وذكر الكفارات هنا يغني عن النص على زكاة الفطر، خاصة مع قوله بعدها: "ونحو ذلك"؛ لأن زكاة الفطر والكفارات بابهما واحد، وهو الإطعام خاصة. وإلا فلماذا ذكر الكفارات أصلا، ثم عطف عليها: "ونحو ذلك"، مع أن السؤال كان عمن أخرج القيمة في الزكاة؟
قال شيخ الإسلام: صدقة الفطر من جنس الكفارات، هذه معلقة بالبدن وهذه معلقة بالبدن، بخلاف صدقة المال فإنها تجب بسبب المال من جنس ما أعطاه الله تعالى. اهـ. وقال في موضع آخر: صدقة الفطر وجبت طعاما للأكل لا للاستنماء. فعلم أنها من جنس الكفارات". اهـ.
وقال أيضا: الأصل الثاني: وهو صدقة الفطر، فإن هذه الصدقة هل تجري مجرى صدقة الأموال، أو صدقة الأبدان كالكفارات؟ على قولين ... ومن قال بالثاني إن صدقة الفطر تجري مجرى كفارة اليمين والظهار والقتل والجماع في رمضان ومجرى كفارة الحج فإن سببها هو البدن ليس هو المال، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات}. وفي حديث آخر أنه قال: {أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة}، ولهذا أوجبها الله طعاما كما أوجب الكفارة طعاما وعلى هذا القول فلا يجزئ إطعامها إلا لمن يستحق الكفارة وهم الآخذون لحاجة أنفسهم فلا يعطي منها في المؤلفة ولا الرقاب ولا غير ذلك. وهذا القول أقوى في الدليل". اهـ.
وبهذا يظهر أن قول شيخ الإسلام: "إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك" تدخل فيه زكاة الفطر. مع تصريح البرهان ابن القيم بذلك. وهذا ما ينسبه أئمة المذهب الحنبلي لشيخ الإسلام، قال المرداوي في «الإنصاف»: قوله (ولا تجوز إخراج القيمة) هذا المذهب مطلقا، أعني سواء كان ثم حاجة أم لا، لمصلحة أو لا، لفطرة وغيرها، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في الفروع وغيره، وعنه تجزئ القيمة مطلقا، وعنه يجزئ في غير الفطرة، وعنه تجزئ للحاجة من تعذر الفرض ونحوه. اهـ.
ففرق بين القول بالإطلاق، وبين القول باستثناء زكاة الفطر، فعرف أن الإطلاق يشمل زكاة الفطر. ثم قال عن المذهب الأخير: واختاره الشيخ تقي الدين. وقيل: ولمصلحة أيضا، واختاره الشيخ تقي الدين أيضا. اهـ.
فعُرف من هذا أن اختيار شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية هو إجزاء القيمة مطلقا في زكاة المال وزكاة الفطر، إذا كان ذلك للحاجة أو للمصلحة الراجحة.
والله أعلم.