الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فشهادات الاستثمار (ومثلها شهادات الادخار بالنقد الأجنبي التي يصدرها بنك مصر بالدولار الأمريكي) يجدر بنا أن نعرِّف بها قبل الحكم عليها، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فشهادة الاستثمار هي الورقة التي تثبت الحق في المبلغ المودع لدى المصرف، والتي تخضع لنظام القرض وللنظم والقوانين الخاصة بها. وتنقسم إلى ثلاثة أنواع:
الأول: شهادات ذات القيمة المتزايدة ومدتها عشر سنوات، وتستحق فوائدها كل ستة أشهر، ولكن لا يحصل صاحب الشهادة على فوائدها أولا فأول، وإنما تضاف إلى أصل قيمة الشهادة إلى أن تنتهي مدتها، ويحق لصاحب الشهادة استرداد قيمتها بعد مضي خمسة أشهر، وإذا تركها إلى نهاية المدة فإنه يأخذها مضافا إليها الفوائد المركبة التي استحقت على هذه الشهادة.
الثاني: شهادات ذات عائد جار، ومدتها عشر سنوات أيضا، ويتحصل صاحبها على الفوائد المستحقة كل ستة أشهر أولا فأول، وتظل قيمة الشهادة ثابتة كما هي إلى نهاية المدة التي تبقى فيها.
الثالث: شهادات ذات جوائز وهي ما يعرف بالمجموعة (ج) ونظراً لانخفاض قيمة هذه الشهادة يلجأ إليها كثير من الناس الذين لا يجدون أي إغراء في سعر الفائدة على المجموعتين: (أ) (ب) لضآلة مدخراتهم، وصاحب هذه الشهادة لا يحصل على فوائد دورية، ولا على فوائد في نهاية مدتها ـ وهي عشر سنوات أيضا ـ وإنما تحتسب الفائدة المستحقة على جملة رصيد المدخرات لمجموع هذه الفوائد الموظفة بما يتداول لدى الأشخاص - كل ربع سنة مثلا- ويجري سحب علني بالقرعة على أرقام الشهادات، ويصرف لأصحاب الشهادات الفائزة جوائز سخية. وهذا النوع الأخير من الميسر المحرم ولا شك في ذلك، مع اشتماله على الربا أيضا ، وهو ليس محل السؤال.
وأما النوعان الأولان ـ وهما محل السؤال ـ فإن المدخِر يدفع نقوداً للمصرف على أن يسترد نقوده التي دفعها للمصرف مضافاً إليها ما استحقه من فوائد خلال مدة بقائها لدى البنك، وأقرب العقود لهذه المعاملة هو عقد القرض، والقرض: هو إعطاء مال إلى من ينتفع به ثم يرد بدله. فإذا كيفت شهادات الاستثمار (ذات القيمة المتزايدة وذات العائد الجاري) على أنها قرض فلا يعتبر الربح الذي يأخذه صاحب هذه الشهادات إلا فائدة له، والفوائد التي يأخذها المقرض زيادة على رأس المال تعتبر ربا يدخل تحت قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة: 275] وعن جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقال: هم سواء" يعني في الإثم. رواه مسلم.
وأما القول بأن شهادات الاستثمار هذه هي من قبيل شركة المضاربة الشرعية، بدعوى أن المضاربة عقد يقدم فيه أحد الطرفين المتعاقدين المال، والثاني العمل على أن يكونا شريكين في الربح على ما شرطا. وشهادات الاستثمار هذه قدم فيها صاحبها المال على أن يسترده ويأخذ ربحا زيادة عليه، لأنه يحتمل أن الحكومة ستعمل في هذا المال أي عمل من الأعمال المربحة، كالتجارة أو الصناعة أو الزراعة، ثم يعطيه جزءاً من الربح فهذا غير صحيح، لأننا لو افترضنا أنها مضاربة كانت فاسدة محرمة، والربح المستفاد منها محرم لأن الربح المتفق عليه في شهادات الاستثمار ربح محدد سلفا وغير مشاع، إذ من شروط المضاربة الصحيحة أن يكون الربح شائعاً بين المضارب ورب المال، بمعنى أن لا يشترط لأحدهما جزء معلوم من الربح، وهذا الشرط نص عليه جميع الفقهاء من المذاهب الأربعة المعتمدة.
وعللوا ذلك بأن المقصود من المضاربة هو: الشركة في الربح، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يكون نصيب كل واحد منهما مشاعاً من ربح رأس المال، كنصف الربح أو ثلثه أو ربعه ونحو ذلك. فإذا شُرط لأحدهما مقدار مقطوع من الربح، أو نسبة معلومة من رأس المال فإن المضاربة غير صحيحة، والبنوك لا تجازف بالمال المدخر لديها بعمل مشروعات قد تربح وقد تخسر، فتلجأ غالباً إلى إقراض المال الذي لديها من المودعين والمدخرين للشركات الكبرى والمشروعات الحديثة بفائدة مرتفعة، ثم تعطي المودعين جزءاً منها وتأخذ الباقي. ولا شك في حرمة هذا التعامل لكل ذي بصيرة يخشى الله تعالى . وبهذا التقرير يظهر للسائل حرمة ما يأخذه من العوائد الشهرية على نقوده التي وضعها في أحد المصارف الأمريكية، وأنها من الربا الصريح.
والله تعالى أعلم