الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليس في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ما ينفي حركة الأرض ودورانها أو يثبت سكونها واستقرارها، وهناك آيات ذكر بعض المفسرين أنها تدل إجمالاً على حركة الأرض ودورانها... وقد تواترت الأخبار من علماء الفلك المسلمين وغير المسلمين أن الأرض تدور وتتحرك كغيرها من الكواكب المبثوثة في هذا الكون، ومن المعلوم -كما هو مقرر في علم الأصول- أن من الأخبار المقطوع بها خبر التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون من المسلمين بل يجوز أن يكون من المسلمين ومن غيرهم، قال الشيخ سيدي عبد الله في المراقي (ألفية الأصول):
واقطع بصدق خبر التواتر * وسو بين مسلم وكافر
واللفظ والمعنى، وذاك خبر * من عادة كذبهم منحظر.
فلا تكاد اليوم تطالع كتابا يتحدث عن هذا الموضوع إلا وجدته يقرر هذه الحقيقة.... وهكذا الأمر بالنسبة لوسائل الإعلام وأحاديث أهل الاختصاص، يقول الدكتور حماد العبيدي في كتابه: الكون من الذرة إلى المجرة (الأرض هي الكوكب السيار الثالث من كواكب المجموعة الشمسية.... وتتميز عن كواكب المجموعة كلها بصلاحيتها للحياة...) ثم يقول: تسبح الأرض بنا في الفضاء كأنها سفينة، وسقفها هو غلافها الجوي، وهي مكيفة بالطاقة الشمسية.... وعند سيرها في دورانها حول الشمس تسير مهتزة متمايلة وتبدو وكأنها تتدرج إلى الوراء ذلك أنها تدور ضد عقارب الساعة وبسرعة تزيد عن (23) كم في الثانية فكأنها صاروخ عابر للقارات، ورغم هذه السرعة المدهشة فإننا لا نشعر بشيء منها، لأن قوة جاذبية الأرض وثقل ضغطها الجوي على رؤوسنا يثبتنا على سطحها تثبيتا يجعلنا كأننا جزء من أديمها، وذلك من عجيب صنع الله تعالى.
هذه الدورة للأرض حول الشمس هي التي تنتج عنها الفصول الأربعة، وتتم في سنة هي السنة الشمسية التي يجري الحساب بها في سائر الأنشطة والأعمال التي يقوم بها الناس، وهناك دورة ثانية للأرض تتم في نفس الوقت مع دورانها حول الشمس، هذه الدورة هي دورتها حول نفسها من الغرب إلى الشرق في اتجاه عقارب الساعة بسرعة (1609) كم في الساعة وتكملها في أربع وعشرين ساعة وينشأ عنها الليل والنهار.
وهذا ما درج عليه علماء التفسير في هذا العصر، حيث يقول الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه التفسير المنير: وكل من الشمس والقمر والأرض يسبح ويدور في فلكه في السماء كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تسير في مدار نصف قطره (93) مليون ميل، وتتم دورتها في سنة، والقمر يدور حول الأرض كل شهر في مدار نصف قطره (24) ألف ميل، والأرض تدور حول الشمس في سنة، وحول نفسها في يوم وليلة.
وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل من الشمس والقمر والأرض مدارا مستقلا يدور فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حينما يحدث خسوف الشمس أو كسوف القمر، كما قال الله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. كأنه أخبر أن كل كوكب سيار يدور...
ويقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن: ..... إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس، وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض، وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة... هي تقديرات من (العزيز) ذي السلطان القادر (العليم) ذي العلم الشامل..... ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة من الأرض على هذا النحو، ولما انبثق النبت والشجر من الحب والنوى.... إنه كون مقدر بحساب دقيق.. لا مجال فيه للمصادفة العابرة....
وفي موضع آخر يقول -رحمه الله-: وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها وتقوت أبناءها وتواري موتاها، وتفجر ينابيعها.... وفق سنة الله تعالى بلا إرادة منها.
ويقول في موضع آخر: .... فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً، ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور، وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار.
وهذا السطح مكور، فالنهار كان عليه مكورا، والليل يتبعه مكورا كذلك، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل، وهكذا في حركة دائبة: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ. واللفظ يرسم الشكل ويحدد الوضع ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية.
وما ذكره فضيلة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- ليس فيه دليل على أن الأرض لا تدور أو لا تتحرك.. وكلامه -رحمه الله تعالى- متجه إلى أن الشمس هي التي تدور كما هو واضح من الأدلة التي ساقها، ولأن السؤال كان عن دوران الشمس وهذا شيء مسلم به من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لا يتنافى في حركة الأرض ودورانها، فالكواكب كلها تدور وتسبح في خضم هذا الكون الفسيح.
وحركة الأرض ودورانها ليست من الواجب عقلا أو المستحيل عقلا بل هي من الجائز، فإذا أثبت أهل الاختصاص من المسلمين وغيرهم هذه الحقيقة ولم يكن في شرعنا ما يخالفها، فإن علينا أن نسلم بذلك ونحن على يقين جازم بأن ثابت الوحي لن يتعارض مع حقيقية علمية ثابتة، فمرد هذه الأمور التي لم يرد نص فيها قطعي من الوحي إلى أهل الاختصاص من علماء الفلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا {الفرقان:59}، ويقول تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {النحل:43}، ومما يجدر وضعه في الاعتبار أن هذه المسألة لا يترتب عليها حكم شرعي ولا ينبني عليها عمل تكليفي، فينبغي أن يكون البحث فيها لأهل الاختصاص من علماء الفلك.
والله أعلم.