الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فالمهر حق خالص للزوجة، ولذلك نسبه الله إليها، قال تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا {النساء:4}، وثبت في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل مال امرئ مسلم، إلا بطيب نفس منه.
وجمهور العلماء على منع أخذ الأب من مال أبنائه -ذكورا وإناثا- إلا عند حاجة الأب، ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجوز للأب -وإن لم يكن محتاجا- أن يأخذ من مال أولاده -ذكورا وإناثا- ما لا يضر الابن ولا يحتاجه، ومن غير أن يجحف بهم، كما بيناه في الفتويين التاليتين: 251809 // 46692.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: يجوز للوالد أن يأخذ من مهر ابنته ما لا يضرها، ولا تحتاجه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» رواه ابن ماجه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» رواه الخمسة ...اهـ.
هذا عن حكم أخذ الأب من المهر، وأما الحق في الرجوع على التركة بما أخذه الأب من مهر، أو غيره من مال الابن، فيقال: إن كان ما أخذه أبوكم هبة بطيب نفس، أو كان الأب قد أخذ ما يجوز له أخذه -وفق ما تقدم شرحه، ولو لم يكن هبة بطيب نفس-: فلا إشكال في عدم جواز الرجوع به.
وإنما محل الكلام هو إن كان الأب قد أخذ من المهر ما لا يجوز له أخذه: فالظاهر في هذه الحالة أنه يحق للابن الرجوع على التركة، وهذا ظاهر على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون أخذ الأب من ماله ابنه إلا عند حاجته.
جاء في مواهب الجليل: وقد روي عن أبي جعفر، عن أشهب أنه سئل عن رجل تزوج بمال ولده، أو أعتق، أو وهب، أو باع. قال: إن كان موسرا يوم فعل ذلك، جاز، وإن كان معسرا لم يجز، وأخذ الابن ماله كله كان الابن صغيرا أو كبيرا. «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك» قال عبد الملك بن حبيب: وقد سمعت أصبغ يجيز ذلك كله من فعل الأب بيعه، وعتقه وهبته، وإصداق النساء، موسرا كان أو معسرا، قائما ذلك كله، أو فائتا، طال أمد البعد أم لم يطل، بنى بالمرأة، أو لم يبن، كان البيع لنفسه أو لولده، فذلك كله عنده ماض، ويلزم الأب قيمة ذلك في ماله وذمته. اهـ.
وحتى عند الحنابلة الذي يتوسعون، فيجيزون أخذ الأب وإن لم يكن محتاجا، فإنه يجوز عندهم الرجوع على التركة بدين الأب. جاء في كشاف القناع: (وليس لولد ولا لورثته مطالبة أبيه بدين قرض، ولا ثمن مبيع، ولا قيمة متلف، ولا أرش جناية، ولا) بأجرة (ما انتفع به من ماله) لما روى الخلال «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه دينا عليه، فقال: أنت ومالك لأبيك» ولأن المال أحد نوعي الحقوق، فلم يملك مطالبة أبيه به كحقوق الأبدان. (ويثبت له) أي: الولد (في ذمته) أي: الوالد (الدين) من بدل قرض، وثمن مبيع، وأجرة ونحوها (ونحوه) كأرش الجنايات، وقيم المتلفات إعمالا للسبب، فإن ملك الولد تام. (وإن وجد) الولد (عين ماله الذي أقرضه) لأبيه (أو باعه) له (ونحوه) كعين ما غصبه منه (بعد موته فله) أي: الولد (أخذه) أي: ما وجده من عين ماله (إن لم يكن انتقد ثمنه) لتعذر العوض، قاله في التلخيص، ولعله مبني على القول بأن الدين لا يثبت في ذمة الأب لولده، فلما تعذر عليه العوض رجع بعين المال، والمذهب أنه يثبت، فيطالب بالعوض (ولا يكون) ما وجد من عين مال الولد بعد موت أبيه (ميراثا) لورثة الأب. اهـ.
لكن هذا من الجهة الفقهية، وإلا فإن مسائل التركات ونحوها من مسائل النزاع والخصومات، ينبغي أن تحل عن طريق القضاء الشرعي أو التحكيم، وأما الفتوى فلا تكفي في هذا الشأن.
والله تعالى أعلم.