الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي البداء نقول: إن خوض السائل في كتاب الله جل وعلا بهذه الطريقة منكر بيّن، فالقول في كتاب الله بلا علم من الموبقات، وإقدام المرء على تفسير القرآن العظيم بمجرد الرأي دون علم وبينة من المحرمات، ولو أصاب الحق فلن يسلم من الإثم، لأنه أتى الأمر من غير بابه، وقد جاء الوعيد الشديد في تفسير كتاب الله بلا علم، وكان أئمة السلف ـ مع سعة علمهم وسلامة قصدهم ـ يتورعون عن الكلام في معاني كتاب الله، قال ابن تيمية: فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ـ وعن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ـ قال الترمذي هذا حديث غريب، فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن حكم بين الناس على جهل، فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ، ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما قال أبوبكر الصديق: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم؟ وعن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: وفاكهة وأبا ـ فقال هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه، فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر وعن ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها، وعن يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع، وعبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع، وعن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه، وعن مسروق قال: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله. اهـ.
وبعد هذا: فقد اختلف العلماء في المراد بالأولين والآخرين في قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ {الواقعة:14،13}.
قال ابن الجوزي: وفي الأوَّلين والآخِرين هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الأوَّلين: الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، والآخرين: هذه الأمة.
والثاني: أن الأولين: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والآخرين: التابعون.
والثالث: أن الأولين والآخِرين: من أصحاب نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال الأمين الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان: وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين {56 39ـ 40} فقال بعض أهل العلم: كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، وإن المراد بالأولين منهم الصحابة، وبعض العلماء يذكر معهم القرون المشهود لهم بالخير في قوله صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ـ الحديث، والذين قالوا: هم كلهم من هذه الأمة، قالوا: إنما المراد بالقليل وثلة من الآخرين وهم من بعد ذلك إلى قيام الساعة، وقال بعض العلماء: المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة، فالمراد بالآخرين فيهما هو هذه الأمة، قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: ظاهر القرآن في هذا المقام أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية، والآخرين فيهما من هذه الأمة، وأن قوله تعالى: ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ـ في السابقين خاصة، وأن قوله: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ـ في أصحاب اليمين خاصة، وإنما قلنا: إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة، التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين، لأنه واضح من سياق الآيات، أما شمول الآيات لجميع الأمم: فقد دل عليه أول السورة، لأن قوله: إذا وقعت الواقعة ـ إلى قوله: فكانت هباء منبثا ـ لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، وأن الجميع مستوون في الأهوال والحساب والجزاء، فدل ذلك على أن قوله: وكنتم أزواجا ثلاثة {56 7} عام في جميع أهل المحشر، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة، ومنهم من هو من هذه الأمة، وعلى هذا، فظاهر القرآن أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليست أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة، لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله: وقليل من الآخرين ـ وعبر عن أصحاب اليمين من هذه الأمة: وثلة من الآخرين ـ ولا غرابة في هذا لأن الأمم الماضية أمم كثيرة، وفيها أنبياء كثيرة ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها، أما أصحاب اليمين من هذه الأمة فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم، لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر، مع أنهما كليهما كثير، ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة فأما كون قوله: وقليل من الآخرين ـ دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين، فلأن الله قال: والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم {56 10ـ 12} ثم قال تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين المقربين: ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ـ وأما كون قوله: وثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين، فلأن الله تعالى قال: فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين {56 36ـ 40} والمعنى هم ـ أي أصحاب اليمين ـ ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وهذا واضح كما ترى. اهـ.
وبهذا يتبين أن ما زعمته من: أن المهدى يأتي في آخر الزمان والذين معه هم الذين قال الله فيهم: وقليل من الآخرين ـ لا أصل له، وإذا لم يصح هذا القول فما رتبته عليه من استدلال هو كذلك لا يصح، وأما المدلول ـ وهو وجوب اجتماع المسلمين على إمام واحد عند القدرة على ذلك ـ فصحيح، قال النووي: واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد: قال أصحابنا: لا يجوز عقدها شخصين، قال وعندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد، وهذا مجمع عليه، قال: فإن بعد ما بين الإمامين وتخللت بينهما شسوع، فللاحتمال فيه مجال، قال وهو خارج من القواطع، وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل، وأراد به إمام الحرمين، وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف، ولظواهر إطلاق الأحاديث. اهـ.
والله أعلم.