الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالصواب أن أول ما خلق الله سبحانه وتعالى الماء, ثم العرش, ثم القلم, ثم الأرض, ثم السماوات.
فقد قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: وَقَدْ رَوَى أَحْمَد، وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيث أَبِي رَزِين الْعُقَيْلِيِّ مَرْفُوعًا "أَنَّ الْمَاء خُلِقَ قَبْل الْعَرْش" وَرَوَى السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيره بِأَسَانِيد مُتَعَدِّدَة "أَنَّ اللَّه لَمْ يَخْلُق شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْل الْمَاء". انتهى.
ولم نجد حديث أبي رزين عند أحمد والترمذي.
وقال الذهبي في كتابه: العلو للعلي الغفار: روى إسماعيل السدي، عن مرة الطيب، عن ابن مسعود، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ناس من أصحاب النبي في قوله: ثم استوى إلى السماء. قال: إن الله تعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانا فارتفع، ثم الماء، فجعله أرضا، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين.... إلى أن قال: فلما فرغ الله عز وجل من خلق ما أحب، استوى على العرش. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، عن موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي. وأخرجه البيهقي في الصفات. انتهى.
وقال الألباني في اختصاره وتحقيقه لكتاب العلو عن هذا الحديث: إسناده جيد. انتهى.
وهذا الموقوف له حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي.
وروى البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض.
قال الحافظ ابن حجر: وأما ما رواه أحمد، والترمذي، وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: أول ما خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، فيجمع بينه، وبين ما قبله: بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة، أي أنه قيل له اكتب أول ما خلق. انتهى.
ومن حِكم تأخير خلق آدم، وذريته عن خلق الماء والعرش، والقلم والسماوات والأرض ونحوها من المخلوقات: أن الكون كله مسخر لخدمة الإنسان المكرم حتى يؤدي الوظيفة التي من أجلها خلق، وهي عبادة الله تعالى، وشأن الكريم أن يهيئ الإكرام لمن يريد إكرامه قبل قدومه، والله سبحانه وتعالى الذي كرم الإنسان هو أكرم الأكرمين. قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {الإسراء:70}. وقال سبحانه: اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ {إبراهيم:32-33-34}.
قال القاسمي في محاسن التأويل: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: في آيات الله، وحججه وأدلته، فيعتبرون بها ويتفكرون. قال المهايمي: منها أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده، وجعل البعض سبب البعض، دليل حكمته، وجعل الكل مسخراً للإنسان، دليل كمال جوده. فمن أنكر هذه الآيات، ولم يشكر هذه النعم، استوجب أعظم وجوه الانتقام. انتهى.
وما ذكرته من تحديد تأخير خلق الإنسان عن خلق الكون بهذه المدة، لا دليل عليه، ولا سبيل إلى معرفة مثل هذه الأمور الغيبية إلا عن طريق الوحي، وإلا كان رجما بالغيب.
وأما وجود حور عين سمراء البشرة، فلم نقف على دليل صحيح يثبت وجودهن بهذه الصفة، إلا ما أخرجه الرافعي في تاريخ قزوين بسنده عن عباية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دخلت الجنة، فرأيت جارية أدماء، لعساء، فقلت: ما هذه يا جبريل؟ فقال: إن الله تعالى عرف شهوة جعفر بن أبي طالب للأدم اللعس؛ فخلق له هذه. قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة: موضوع. فلا يصح الاحتجاج به.
ومعنى "أدماء" : أي شديدة السمرة . ومعنى "لعساء" : أي بشفتها سواد مستحسن. وراجع الفتوى رقم: 48035.
وأما أن الله تعالى سيعطي أهل الجنة ما يحبونه: فنعم، تصديقا لقوله سبحانه: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. {الزخرف:71}. فمن دخل الجنة نال ما تمنى، ووجد ما يشتهي، فلن يشاء فيها شيئاً إلا أعطيه، كما قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ {النحل:31}.
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ، وَاسْتِوَاؤُهُ، وَاسْتِحْصَادُهُ، وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وفي هذا الحديث من الفوائد أن كل ما اشتهي في الجنة من أمور الدنيا، ممكن فيها. قاله المهلب. انتهى.
والله أعلم.