الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما عبر عنه السائل بالأنشطة الدينية لقريش قبل المبعث، منه ما هو حق، وهو بقية من دين الخليل إبراهيم، -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- كالطواف بالكعبة، وتعظيم الحرم. ومنه ما هو شرك كعبادة الأوثان والذبح لها.
والذي يظهر لنا أن محل سؤال السائل هو النوع الثاني، فإن كان كذلك، فهذا قد عصم الله تعالى منه نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد سبق لنا ذكر طرف من أدلة ذلك، فراجع الفتوى: 25449.
وقال العلامة المعلمي اليماني في رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله: اختلف أهل العلم في حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة أكان متعبدا بشرع أم لا؟ والقائلون بالتعبد اختلفوا في تعيين الشرع الذي كان متعبدا به. وأنت إذا تدبرت ما تقدم علمت أنه كان متعبدا بشرع أبيه إبراهيم عليه السلام، وكان صلى الله عليه وآله وسلم قائما بما يلزمه بحيث لو أن رجلا آخر كان على مثل حاله ومات قبل البعثة لكان ناجيا. فمن المنقول في ذلك: اجتنابه صلى الله عليه وآله وسلم الأوثان، صح ذلك من حديث زيد بن حارثة كما سيأتي، وفيه كفاية عما في الدلائل لأبي نعيم بسند واه إلى أم أيمن وآخر واه إلى ابن عباس. ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف بعرفة مخالفا لقومه، ثبت ذلك في الصحيحين من حديث جبير بن مطعم ... ومن ذلك: اجتنابه صلى الله عليه وآله وسلم الذبح على النصب والأكل مما ذبح عليها. قد مر طرف من ذلك في قصة زيد بن عمرو بن نفيل، وأخرج الحاكم في المستدرك وأبو يعلى والبزار وغيرهما من طريق أبي أسامة، ثنا محمد بن عمرو هو ابن علقمة، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير وهو مردفي في أيام الحر من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقي فيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لي أرى قومك قد شنفوك؟" قال: أما والله إن ذلك لغير نائرة كانت مني إليهم، ولكني أراهم على ضلالة، قال: فخرجت أبتغي هذا الدين حتى قدمت على أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم كذلك، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك تسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخا بالجزيرة، فخرجت حتى قدمت إليه فأخبرته الذي خرجت له فقال: إن كل من رأيته في ضلالة، إنك تسأل عن دين هو دين الله وملائكته، وقد خرج في أرضك نبي أو هو خارج يدعو إليه، ارجع إليه وصدقه واتبعه وآمن بما جاء به، فرجعت فلم أحس شيئا بعد، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البعير الذي كان تحته، ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيها الشواء، فقال: "ما هذه؟" فقلنا: هذه شاة ذبحناها لنصب كذا وكذا، فقال: "إني لا أكل ما ذبح لغير الله" .... وفي الصحيحين وغيرهما في حديث بدء الوحي: "ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد ــ قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها". قال الحافظ في الفتح: "قوله: "فيتحنث"، هي بمعنى يتحنف، أي: يتبع الحنيفية، وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم، وقد روي في رواية ابن هشام في السيرة: يتحنف بالفاء؛ أو التحنث: إلقاء الحنث، وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما".... انتهى.
هذا، وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى أن الأنبياء معصومون قبل بعثتهم من الكبائر والصغائر؛ وراجع الفتوى: 191209.
وقال الدكتور عماد الشربيني في بحثه: (رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم): عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في الأمور السابقة ـ يعني الاعتقادات والتبليغ، والأقوال والأفعال ـ ثابتة لهم قبل النبوة، وبعدها في الكبائر والصغائر، عمدها وسرها، على الأصح، في ظاهرهم وباطنهم، ورضاهم وغضبهم، وهو ما أَدين لله تعالى به؛ لأن حال الأنبياء قبل النبوة يؤثر على مستقبل دعوتهم بعد النبوة سلباً وإيجاباً، وهذا هو الصحيح عندي ويطمئن إليه القلب، وتستريح إليه النفس، وهو مذهب كثير من العلماء المحققين المحقين من أهل الكلام والحديث ... انتهى.
ثم ذكر أدلة ذلك، وذكر في الحاشية بعض أهل العلم القائلين بذلك، وهم: ابن حزم في الفصل في الملل والنحل 2/285، 321، والإيجي في المواقف في علم الكلام ص358، 359، والجرجاني في شرح المواقف 8/288 - 290، وسعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد 2/142، 143، وفخر الدين الرازي في المحصل ص219، 220 والقاضي عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص573، 575، والشوكاني في إرشاد الفحول 1/161، وكثير من المحققين من أهل الحديث منهم القاضي عياض في الشفا 2/145، والقسطلاني في المواهب اللدنية، والزرقاني في شرحه على المواهب 9/5، 7/14، والأُبي في إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم 1/315، و ابن الوزير اليماني في الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم 1/118، وأبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة عقد فصلاً بعنوان: ذكر ما خصه الله عز وجل به من العصمة وحماه من التدين بدين الجاهلية 1/185 - 212، وكذلك فعل البيهقي في دلائل النبوة أيضاً فقد عقد عنواناً لهذا الموضوع فقال: باب ما جاء في حفظ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في شبيبته عن أقذار الجاهلية ومعائبها… الخ 2/30 - 42، ومثلهما السيوطي في الخصائص الكبرى حيث قال: باب اختصاصه صلى الله عليه وسلم بحفظ الله إياه فى شبابه عما كان عليه أهل الجاهلية 1/148 - 152.
والله أعلم.