الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أهل الحديث من السلف ومن تبعهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق, منه بدأ وإليه يعود، وأنه كلام الله حقيقةً حروفَه ومعانيَه، لا الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، قال حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ في أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة: القرآن كلام الله عز وجل حقيقة حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، تكلم الله به قولاً، وأنزله على نبيه وحياً، وآمن به المؤمنون حقاً، فهو وإن خط بالبنان، وتلي باللسان، وحفظ بالجنان وسمع بالآذان، وأبصرته العينان، لا يخرجه ذلك عن كونه كلام الرحمن، فالأنامل والمداد والأقلام والأوراق مخلوقة، والمكتوب بها غير مخلوق، والألسن والأصوات مخلوقة، والمتلو بها على اختلافها غير مخلوق، والصدور مخلوقة والمحفوظ فيها غير مخلوق، والأسماع مخلوقة، والمسموع غير مخلوق... إلخ. اهـ.
ولم يتبين لنا تماماً مرادك من قولك: ومعنى من حيث المجمل ـ فإن أردت أن القرآن عند حكاية الله فيه أقوالَ السابقين أن مجرد اللفظ من الله بينما المعنى هو من المحكي عنه، فليس كذلك، بل القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه وإن حكى الله فيه قول غيره، وبلغةٍ غير التي تكلم بها ذلك الغير، وذلك الغير من نبيٍّ أو مَلَك أو غيره لما تكلم بذلك تكلم بحروف ومعانٍ، وتلك المعاني ليست هي بعينها التي في كلام الله، بل ذلك الغير كانت له حروفٌ ومعانٍ قامت به، ثم الله عز وجل لما حكى قوله قامت به أيضاً حروفٌ ومعانٍ تليق به عز وجل لا يشركه في أعيانها شيء، وإنما حصل الاتفاق في القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ، قال شيخ الإسلام في التسعينية: 2ـ 464 ـ رداً على من جعل الكلام مجرد الحروف والأصوات دون المعاني: فإن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبريةٌ، والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية، فلو لم يكن الكلام إلا مجرد الحروف والأصوات لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى والذي ذكره الله أنه سمعه قدر مشترك أصلاً، بل كان يكون الإخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها كذب، وكذلك سائر من حكى اللهُ في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية، فإنما تكلموا بلغتهم، وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن وهي العربية، وكلام الله صدق، فلو كان قولهم مجرد الحروفِ والأصواتِ ـ والحروفُ والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه ـ لم تكن الحكاية عنهم مطلقا، بل كلامهم كان حروفا ومعاني، فحكى الله عنهم ذلك بلغة أخرى، والحروف تابعة للمعاني، والمعاني هي المقصود الأعظم، كما يترجم كلام سائر المتكلمين. اهـ.
فإذا عبر الله عن معنى بلفظ عبري في التوراة، ثم عبر عن نفس المعنى بلفظ عربي في القرآن، لم يكن كلامه الذي في القرآن مجرد اللفظ العربي الدال على ذلك المعنى، بل مجموع اللفظ والمعنى قرآن، كما أن ذاك الذي في التوراة مجموع لفظه ومعناه توراة، توافقا في القدر المشترك واختلفا في الأعيان، فقام عين هذا المجموع من لفظ ومعنى بالله في وقت، ثم قام عين هذا المجموع الآخر من لفظ ومعنى بالله في وقت آخر، وهذا في أعيان كلام الله عز وجل نفسِه، فما قام بغير الله من كلامٍ لفظه ومعناه، ثم ما قام بالله من كلامٍ لفظاً ومعنى حكايةً لكلام ذلك الغير، متغايران ـ من باب أولى ـ في عين اللفظ والمعنى مع اتفاقهما في القدر المشترك الذي هو أصل المعنى ومدلولُ اللفظ.
والله أعلم.