الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الواجب على المسلم أن يجمع في عبادته لربه بين الحب والخوف والرجاء، فينوي امتثال أمر الله حيث أمره بهذه العبادة حبًّا لله تعالى, وطلبًا لرضوانه وجنته, وخوفًا من عقابه، فلا بد للإنسان في مسيره إلى الله عز وجل في هذه الحياة من هذه الثلاثة, فهي كما يقول ابن القيم -رحمه الله -: كالطائر له رأس وجناحان، فالرأس محبة الله، والجناحان الخوف والرجاء، فإذا قُطع الرأس مات الطائر، وإذا كسر أحد الجناحين عجز الطائر عن الطيران.
ولا يليق بالمسلم أن يتوانى في تحقيق وتحصيل محبة الله تعالى, فإن محبة الله أعظم من كل شيء، وهي أصل دين الإسلام, وبكمالها يكمل الإيمان, وبنقصانها ينقص، فعليك بسؤال الله أن يرزقك محبته، واسعَ في تحصيلها, وتذكر نعمه التي أسبغها عليك حتى تنمو تلك المحبة.
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه فقال: أسألك حبك, وحب من يحبك, وحب عمل يقربني إلى حبك. رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومحبة الله تعالى فرع لمعرفته، فلا يمكن أن نحب الله عز وجل دون أن نعرفه، كما لا يمكن أن نعرفه معرفة حقة ثم لا نحبه؛ لذلك ينبغي أن تكون بداية السائل هي التعرف على الله تعالى، ولا سبيل إلى معرفته عز وجل أقصر ولا أيسر، ولا أنفع ولا أرفع، من التعرف عليه من خلال الوحيين: القرآن العظيم، والسنة الثابتة, فمن تدبر كتاب الله، وتفهم ما فيه من أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله المثلى أحبه ولا شك؛ فإن محبة الشيء إنما تكون لكماله في ذاته، وكماله في أفعاله، والله تعالى له الكمال المطلق في ذاته وأفعاله، فمن كمال ذاته كمال علمه وقدرته، وحكمته وعزته، وغناه وعظمته، إلى غير ذلك من صفات ذاته، ومن كمال أفعاله كمال عفوه ورحمته، وبره وإحسانه، وقهره وانتقامه، إلى غير ذلك من صفات أفعاله... وفهم هذه المعاني يحتاج لمدارسة لأسماء الله وصفاته، وهذا من مفاتيح الإيمان الضرورية لمعرفة الله تعالى.
ومن تدبر آيات القرآن التي تتناول الحديث عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله - كآية الكرسي, وسورة الإخلاص مثلًا - يجد نفسه محبًا لله، ومنيبًا إليه، ومعظمًا له، ثم التفكر بعد ذلك في مخلوقات الله تعالى، وما أبدعه في هذا الكون الفسيح، يثمر هو الآخر زيادة معرفة بالخلاق العليم سبحانه وتعالى، ولا يملك الناظر المتجرد لبديع صنع الله في كونه إلا محبة الله وإجلاله والخشوع بين يديه، والإقبال بقلبه عليه... ثم التفكر بعد ذلك في نعم الله الخاصة والعامة، والنظر لحال من حرم من بعضها يزيد من محبة الله والاستحياء منه، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {النحل: 18}، وقال: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ {النحل: 53}.
قال ابن القيم في طريق الهجرتين: من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدًا؛ ولهذا قال حكاية عن نبيه أنه قال لصاحبه أبي بكر: "لا تحزن إن الله معنا", فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له والحزن، وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أي شيء يحزن، ومن فاته الله فبأي شيء يفرح، قال تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا", فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه، فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به من حبيب أو حياة أو مال أو نعمة أو ملك، يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقية الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة, فيظهر سرورها في قلبه, ونضرتها في وجهه, فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقاهم الله نضرة وسرورًا، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العلم الذي شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم. انتهى.
وقال أيضًا: الراغبون ثلاثة أقسام: راغب في الله، وراغب فيما عند الله، وراغب عن الله، فالمحب راغب فيه، والعامل راغب فيما عنده، والراضي بالدنيا من الآخرة راغب عنه, ومن كانت رغبته في الله كفاه الله كل مهم، وتولاه في جميع أموره، ودفع عنه ما لا يستطيع دفعه عن نفسه. اهـ من روضة المحبين, وراجع الفتوى: 46678.
وأما محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهي من أعظم واجبات الإسلام, ومن أقوى عرى الإيمان, ولبيان كيفية استجلابها ننصحك بمراجعة الفتاوى التالية: 71891، 75172، 12185.
والله أعلم.