الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننبه ابتداء إلى أن الحكم على إنسان بالكفر أو الشرك أمر من الخطورة بمكان عظيم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تكفير المسلم فقال: أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. رواه البخاري ومسلم وغيرهما. والحكم بالكفر من اختصاص القضاء الشرعي لأنه يتطلب التثبت وتوفر الشروط وانتفاء الموانع، فيمكن أن يعمل المسلم عملاً يوصف بالشرك أو الكفر ولكن لا يحكم على صاحبه بشيء من ذلك إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وقال أهل العلم: لا بد من التفريق بين الحكم على الفعل بأنه كفر، وبين الحكم على الفاعل بأنه كافر، للاختلاف في متعلق كل من الأمرين. فالحكم على الفعل الظاهر بأنه كفر متعلق ببيان الحكم الشرعي مطلقاً. وأما الفاعل فلا بد من النظر إلى حاله، لاحتمال طروء عارض من العوارض المانعة من الحكم بكفره من جهل أو إكراه أو غيره ذلك.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ... الشخص المعين لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه ..... اهـ.
وقال أيضا: إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. وقال: كان أحمد رحمه الله يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة…… لكن ما كان يكفر أعيانهم. ويقول: ومن ثبت إسلامه بقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد: ...لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى تتبين شروط التكفير في حقه... انتهى.
وأما اذا حكم القاضي الشرعي بكفر الشخص الذي توفرت شروط التكفير في حقه فيحكم بكفره من الوقت الذي صدرت منه الأفعال الكفرية.
فقد جاء في كشاف القناع :( فصل ومن أكره على الكفر فالأفضل له أن يصبر ) على ما أكره به ولا يجيب ( ولو أتى ذلك على نفسه ) بأن كان يؤدي ذلك إلى موته ( وإن لم يصبر وأجاب ) بكلمة الكفر ( ظاهرا لم يصر كافرا إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ) لقوله تعالى: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ( ومتى زال الإكراه أمر بإظهار إسلامه ) لزوال العذر ( فإن أظهره ) فهو باق على إسلامه ( وإلا ) أي وإن لم يظهره بعد زوال الإكراه ( حكم بأنه كافر من حين نطق به ) أي بالكفر لأن ذلك قرينة على أنه لم يفعله لداعي الإكراه بل اختيارا ( وإن شهدت بينة أنه نطق بكلمة الكفر وكان محبوسا أو مقيدا عند الكفار في حالة خوف لم يحكم بردته ) لعدم طواعيته. اهـ.
والله أعلم.