نفتي بما نراه راجحا مبرئا لذمتنا بين يدي الله تعالى

4-12-2011 | إسلام ويب

السؤال:
حقيقة أنا طالب علم في سن 35 قد عانى أخي من المشكلة المنتشرة وهي تأخر انقطاع قطرة البول لمدة تصل لعشر دقائق أو أكثر قليلا وقد سألني فأجبته بما جاء في التاج والإكليل أن ابن رشد قد سئل عن ذلك فقال لا بأس عليه إن استنكحه الأمر، وكان ذلك منذ عشر سنين وقد اطلع أخي على فتوى فضيلتكم بوجوب الانتظار بعد أن ظل محافظا على الصلاة منذ أكثر من عشر سنيين لم يستطع أن يحافظ عليها ليومين بعد أن سار على فتوى فضيلتكم وذلك بسبب المشقة التي عاناها والوسوسة، وقد اطلعت على فتوى قد وصلتكم تفيد بأن الأمر فيه مشقة وفتح باب الوسوسة ولكنكم أصررتم على الفتوى فأرجو من فضيلتكم أن تعيدوا بحث الأمر لأن الأمر ليس حالة نادرة، بل هي منتشرة جدا والأمر كما وصلني أن فيه مشقة عظيمة بمعنى الكلمة، ولاتهويل في الموضوع فأرجو من فضيلتكم الأخذ بمنهج المالكية العراقيين في تعريفهم السلس وحكمه والاطلاع على النصوص الشرعية التي تدفع الحرج والمشقة وعما جاء في التاج والإكليل.

الإجابــة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: 

فشكر الله لك حرصك على طلب العلم، كما نشكر لك متابعتك فتاوانا ومناصحتك إيانا، لكننا نحب أن نوجهك إلى أمور تختص بما ذكرته فنقول:

أولا: ما ذكرته عن ابن رشد ليس على وجهه، فإن عبارة التاج والإكليل هكذا: وَسُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَاءِ وَقَدْ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَيَكُونُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ سَائِرًا إلَيْهَا فَيَجِدُ نُقْطَةً هَابِطَةً فَيُفَتِّشُ عَلَيْهَا، فَتَارَةً يَجِدُهَا وَتَارَةً لَا يَجِدُهَا. فَأَجَابَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا اسْتَنْكَحَهُ ذَلِكَ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ. انتهى.

فأنت ترى أن المسألة إنما هي في شاك لا يتيقن خروج الخارج فهذا لا يلزمه شيء، لأن الأصل عدم خروج المشكوك فيه فهذا إذا استنكحه الشك يلهى عنه، ومن المعلوم أن الشك ناقض للوضوء عند المالكية خلافا للجمهور، ففتوى ابن رشد هذه جارية على خلاف المذهب دفعا للمشقة ورفعا للحرج.

ثانيا: مذهب المالكية المقرر المعتمد عندهم أن مثل أخيك لا يعد صاحب سلس، فيلزمه ما ذكرنا من الوضوء بعد انقطاع البول، وإنما يعفون عما أصابه من النجاسة، وغير خاف أن الفتوى إنما تكون على المعتمد في المذاهب وما قرره المحققون من أتباع المذهب، ونحن كثيرا ما نشير إلى إمكان الأخذ بمذهب المالكية في هذا الباب عند المشقة رفعا للحرج، ونبين أن هذا ليس من تتبع الرخص المذموم، وراجع الفتوى رقم: 150783.

ثالثا: ما نسبته للعراقيين من المالكية صحيح النسبة إليهم، قال في التاج والإكليل: قَالَ شَارِحُ التَّهْذِيبِ: أوجِب فِي الْكِتَابِ الْوُضُوءَ مِنْ السَّلَسِ إنْ كَانَتْ مُفَارَقَتُهُ أَكْثَرَ، وَلَمْ يُوجِبْهُ الْعِرَاقِيُّونَ، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا فِي الْخَارِجِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَاد. انتهى.

وفي منح الجليل: وَنُقِضَ الْوُضُوءُ بِسَلَسٍ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ خَارِجٍ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ مَذْيٍ أَوْ مَنِيٍّ أَوْ وَدْيٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ هَادٍ أَوْ دَمِ اسْتِحَاضَةٍ وَنَعَتَهُ بِجُمْلَةِ فَارَقَ أَيْ السَّلَسُ الشَّخْصَ أَيْ ارْتَفَعَ عَنْهُ أَكْثَرَ الزَّمَنِ أَيْ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِهِ، فَإِنْ لَازَمَهُ كُلَّ الزَّمَنِ وَأَكْثَرُهُ أَوْ نِصْفُهُ فَلَا يَنْقُضُهُ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَغَارِبَةِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَطَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ مطلقا. انتهى.

وقد عرفت بما نقلناه أن قول العراقيين هذا ليس هو الراجح ولا المعتمد عند المالكية، فأي تثريب على من لم يفت بقول غير معتمد في واحد من المذاهب المتبوعة، ونحن ننتهج في هذا الموقع المبارك ـ إن شاء الله ـ ألا نفتي إلا بما قام عليه الدليل أو رجحه محققو العلماء من المذاهب المتبوعة، فنحن لا نرى وجها لإنكارك فتوانا وهي جارية على مذهب الجمهور من الأئمة.

رابعا: مسائل الاجتهاد كما لا يخفاك ليست مما ينكر على المخالف، ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله: ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ـ  نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية.

ونحن لا نلزم أحدا باتباعنا فيما نفتي به، وإنما نفتي بما نراه راجحا مبرئا لذمتنا بين يدي الله تعالى، ومن ظهر له خلاف ما نفتي به فلا عليه ألا يوافقنا، وكذا ينبغي أن يكون مسلكك فيما تعتمده من الأقوال، فإن كنت أهلا للاجتهاد أو كانت لك ملكة ترجح بها بين الأقوال المختلفة فمهما ظهر لك رجحان قول ترى أنه أوفق للدليل ولمقاصد الشريعة وكنت مسبوقا بالقول به فقل به، ولكن لا تنكر على من خالفك فإن الإنكار في مثل هذه المسائل ليس بالمسلك السديد.

خامسا: غير خاف علينا أن هذه الفتوى أشق مما اختاره العراقيون من المالكية، ولكن الأمر ليس بهذا العسر والضيق، وما أكثر من هم مبتلون بهذا الأمر ويعملون فيه بما يوافق قول الجمهور، فما على المبتلى بهذا الداء إلا أن ينتظر ريثما ينقطع خروج البول ثم يتوضأ ويصلي، وعلى تقدير كون هذا القول مشتملا على شيء من المشقة فإن الشريعة لا تخلو أحكامها من شيء من المشقة ليميز الله بها الخبيث من الطيب والصادق من المدعي، وقد سميت أحكام الشرع بالأحكام التكليفية لإلزامها بما فيه كلفة أو مشقة، قال الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله: التكليف لغة هو الزام ما فيه كلفة أي مشقة. انتهى.

فهذه الشريعة السمحة وإن أتى فيها التكليف بما يشق أحيانا، لكنها مشقة محتملة داخلة في طوق العبد، ثم هي لأجل مصلحته وسعادته في دنياه وأخراه، وتفصيل هذا مما يطول جدا.

والله أعلم.

www.islamweb.net