الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
هذا الكلام ليس بجديد فالحملة المسعورة على الإسلام وثوابته ومحكماته قديمة، ونطمئن السائلة بأن الله – جل وعلا – تكفل بحفظ دينه وكتابه، وها هو القرآن شامخا بين أيدينا لم يزد فيه حرف ولم ينقص.
والكتاب المذكور من الكتب الخبيثة الحاقدة المحشوة بالترهات والأباطيل والكذب والبهتان والهدف منه - الطعن في السنة النبوية وصحتها، والتقليل من مكانة وقداسة النبي في قلوب المسلمين، والتشكيك في أمانة ونزاهة علماء الإسلام العظام أمثال البخاري وغيره.
والأزهر قد شكل لجنة لدراسة الكتاب انتهت إلى أن هذا الكتاب مملوء بالأباطيل وأوصت بمصادرته، ونعم ما فعلت.
وكان ينبغي على السائلة أن تعرض عن مثل هذه الأباطيل الواهية، والشبهات الزاهقة، ولا تنصت إليها، لأن الواجب على المسلم ألا يعرض نفسه لمواطن الفتن، ومزالق الشبهات، ولكن أما وقد كان ما كان، فإنا – بحول الله وقوته ومنه وحده نستمد التوفيق والسداد – سنفند هذه الأباطيل ونرد عليها بما يشفي صدور قوم مؤمنين، ويكبت قلوب الكافرين فينقلبوا- بإذن الله - خائبين.
أولا: بالنسبة لأمر السيدة عائشة وزواج النبي بها وهي في سن التاسعة من عمرها، فنقول: إن البيئة الحارة في الجزيرة العربية كانت تساعد على سرعة البلوغ لدى االشباب والفتيات، وخصوصا الفتيات وهذا أمر ثابت علميا ومعلوم بالمشاهدة، والكتب التاريخية التي نقلت زواج النبي من السيدة عائشة في هذه السن هي بعينها التي نقلت أنها كانت مخطوبة قبل ذلك لجبير بن مطعم ابن عدي وهذا ليدل على أن هذا الأمر كان مألوفا عند العرب، فليس رسول الله هو أول من فعله جاء في تاريخ الطبري: فقد خطبها المطعم بن عدى الى ابنه جبير فلما جاءت خوله بنت حكيم لتخطبها لرسول الله قال لها ابو بكر انتظرينى حتى أرجع...وقالت أم رومان تجلو الموقف للخاطبه: إن المطعم بن عدى كان قد ذكر عائشة على ابنه جبير ولا والله ما وعد أبو بكر شيئا قط فأخلف.
فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم جبريل وكانت مشركة فقالت العجوز: يابن أبي قحافه لعلنا إن زوجنا ابننا بابنتك، أن تصبأ وتدخله في دينك الذى أنت عليه ؟!
فلم يرد عليها أبو بكر، بل التفت إلى زوجها المطعم وقال: ما تقول هذه؟ أجاب: إنها تقول ذلك الذى سمعته.
فخرج أبو بكر وقد شعر بارتياح لما أحل الله من وعده وعاد إلى بيته فقال لخولة: ادعي رسول الله.
فهذا ليدل أن أمر الزواج في هذه السن كان شائعا لديهم، ومما يؤكد هذا أن قريش مع عدائها الشديد لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتربصها به فإن أحدا منهم لم يذكر هذا الفعل من رسول الله على جهة الانتقاص أو الطعن، بل لم يطعن فيه إلا شياطين هذا الزمان،الذين ينادون بالحرية الشخصية ويتشدقون بها، فيادعاة الحرية: إذا كانت عائشة قد رضيت بزواجها من رسول الله وأبوها وأمها راضون فمن أي شيء تنقمون؟
وأما ما جاء من كلامهم حول الكلام الذي يلقيه الشيطان على لسان النبي، فهم يقصدون بذلك قصة الغرانيق، وقد سبق الكلام عن هذه القصة بالتفصيل في الفتويين: 22950، 28282.
وأما أمر تأخر تدوين السنة ودعوى أن هذا مدعاة لعدم الوثوق بها فنقول: إن السنة قد كتب منها شيء كثير على عهد رسول الله ومن ذلك ما يلي:
1. الصحيفة الصادقة: التي كتبها عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد انتقلت هذه الصحيفة إلى حفيده عمرو بن شعيب، وأخرج الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو من كتابه المسند قسمًا كبيرًا من أحاديث هذه الصحيفة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ويروي العلماء أنه كتب فيها ألف حديث.
2- صحيفة علي بن أبي طالب:.أخرج نبأها البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال قلت: فما في هذه الصحيفة ؟ قال العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
3- صحيفة سعد بن عبادة، فقد أخرج الترمذي في سننه، عن ابن سعد بن عبادة قوله: وجدنا في كتاب سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد. وصححه الألباني.
4- كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه وعماله، فيما يتعلق بتدبير شؤون الأقاليم الإسلامية وأحوالها، وبيان أحكام الدين، وهي كتب كثيرة تشتمل على مهمات أحكام الإسلام وعقائده، وبيان الأنصبة والمقادير الشرعية للزكاة، والديات والحدود والمحرمات وغير ذلك، ومن هذه الكتب:
أ- كتاب الزكاة والديات الذي كاتب به أبو بكر الصديق وأخرجه البخاري في صحيحه، فقد روى أبو داود والترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه حتى قبض.
ب- كتابه لعمرو بن حزم عامله على اليمن، بين فيه أصول الإسلام، وطريق الدعوة إليه، والعبادات وأنصبة الزكاة والجزية والديات.
ج-كتابه إلى وائل بن حجر لقومه في حضرموت، وفيه الأصول العامة للإسلام، وأهم المحرمات.
5- كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها إلى الإسلام، ككتابه إلى هرقل ملك الروم، وإلى المقوقس بمصر، وغيرهم.
6- عقوده ومعاهداته التي أبرمها مع الكفار، كصلح الحديبية، وصلح تبوك، وصحيفة المعاهدة التي أُبرمت في المدينة بين المسلمين وبين من جاورهم من اليهود وغيرهم.
7. كتب أمر بها صلى الله عليه وسلم لأفراد من أصحابه لمناسبات ومقتضيات مختلفة، مثل كتابة خطبته لأبي شاه اليماني في الحديث المتفق عليه.
وغير ذلك مما كتب في عهده صلى الله عليه وسلم مما لم نحصه هنا، أو لم نحط به علمًا، وهو كاف لإثبات تواتر الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم وإثبات أن ما كتب في عهده صلى الله عليه وسلم تناول قسمًا كبيرًا من حديثه، هو أهم هذه الأحاديث وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور.
وأما الأحاديث الواردة في النهي عن كتابة السنة على عهد النبي فقال النووي في شرحه على صحيح مسلم: إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة، وقيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة ؛ لئلا يختلط، فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة.انتهى
وهذا النهي له حكم آخر غير الحفاظ على القرآن من اختلاطه بالسنة منها:
أن السنة النبوية ثلاثة أنواع؛ قولية وعملية وتقريرية فالتقريرية يعني يرى النبي صلى الله عليه وسلم أمرا بين يديه فيستحسنه أو يسكت عنه فهذا حديث تقريري، والعملية كالأحاديث التي تحكي صفة صلاته وحجه وسائر أموره، فهل يتصور عقلا أن يكتب الصحابة كيف كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين كانوا يمارسون هذا معه ذلك عمليا، فلو أنه أمر بتقييد الحديث على الورق لضاع على الناس السُنّة التقريرية والعملية، واعتمد الناس على المكتوب القولي فقط، فالنبي يريد أن يعيش المسلمون في زمنه السُنّة تطبيقا وأداءً واتباعا،من باب حمل الصحابة على تطبيق السُنّة وممارستها قولا وفعلا وسلوكا.
أما ما لم يكتب وكتب بعد ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز فهذا أيضا لا مطعن فيه؛ لأن العرب أمة أمية وذلك جعلهم يعتمدون على الذاكرة اعتمادا كبيرا، فالعرب معروفون بقوة الذاكرة التي كانت تغنيهم كثيرا عن التدوين، وكانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن، بل كانوا يعدون الكتابة عيبا كما جاء في كتاب "الأغاني" عن ذي الرمة لما رآه أحد الناس يكتب وقال له: أتكتب؟ فقال بيده على فيه: اكتم علي فإنه عندنا عيب. وكانوا يعدون الفتوة هي الاعتماد على الذاكرة والحفظ.
ثم من قال إن الذين أخذوا عن الصحابة لم يدونوا لأنفسهم كما دون بعض الصحابة؟
أضف إلى ذلك أن الشروط الشديدة التي اشترطت في تلقي الخبر وقبوله، وعلوم الجرح والتعديل، تثبت المصداقية لهذه الأحاديث التي حكم عليها العلماء بالصحة.
وأما الضعيف والموضوع فقد بينوه.
وأختم حديثي بكلام للشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله في كتاب "شبهات حول السنة" قال: فإن السنَّة لم تدون أسانيدها إلا في وقـت متأخر، أما متون الأحاديث فمن المفروغ منه أنه دونها بعضهم، فهذا عبد اللّه بن عمرو بن العاص - رضي اللّه عنهما- دوَّن وكتب بعض الأحاديث لنفسه.
وقال في موضع آخر: فمن أين علم هؤلاء المعارضون أن الذين نقلوا عن الصحابة لم يدونوا لأنفسهم ولم يكتبوا اسم الصحابي الذي روى لهم، إنما الذي تأخر بعد المائة جمع المتون والأحاديث في دواوين مختلطة بالآثار والفقهيات أولا، ثم جُرِّد هذا من هذا في بعض الكتب كما جُرِّد صحيح مسلم من الآثار والفقهيات، وبقي الوضع على هذا في بعض الدواوين؛ مثل صحيح البخاري. وقال في موضع ثالث: ففي رد هذه الشبهة يراعى ما يلي:
أولا: أنه لم يكن هناك بعد السند الطويل الذي يحتاج إلى تدوين وإلى كتابة الدواوين.
ثانيًا: أنه ليس في تأخر تدوين دواوين الحديث إلى ما بعد ذلك دليل على أن أولئك الأتباع لم يكتبوا عمن رووا عنه، من شيخ أو شيخ شيخ، والسند في ذلك الوقت لم يكن فيه سوى راو واحد أو اثنين.
ثالثًا: ثم الشروط التي اشترطت من جهة الضبط وعدالة الراوي وأمانته واتصال السند كفيلة ببعث الثقة في النفس بأن هذا ثابت عن الرسول.
وأما الحديث عن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالقرآنيين - والقرآن منهم براء- فقد سبق الحديث عنهم في الفتاوى ذات الأرقام:25570، 31742، 108792.
والله أعلم.