السؤال
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على صُبْرَة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني.
السؤال: لماذا لم يعاقب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك التاجر الذي حاول أن يغش؟ وهل يمكن اعتبار هذا الحديث دليلا على عدم مشروعية معاقبة التاجر الغشاش؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اكتفى النبي -صلى الله عليه وسلم- بتنبيه هذا الرجل بالقول، وبيان حكم الشرع له؛ إما لكونه كان جاهلا بذلك، أو لعله لم يتكرر منه هذا الأمر، فاكتفى بالقول.
قال الشيخ محمد الأمين الهرري في شرحه لصحيح مسلم: ولم يأت في الحديث أنَّه أدَّبه، ولا أخرجه من السوق، فلعله ممن لم يتكرر منه ذلك، فيكفي في أدبه القول. انتهى.
والمتيقن أن هذا الرجل أزال ما فعله من الغش استجابة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحصل المقصود بذلك، ولم يعاقبه لما ذكر.
ولا ينفي هذا مشروعية عقوبة الغاشِّ، وخاصة إذا عرف بذلك وتكرر منه، فإن عقوبة الغاشِّ مشروعة، وقد رويت عقوبة الغاشِّ عن عمر -رضي الله عنه-، وأمْر تلك العقوبة موكول إلى رأي الإمام، فيعزره بما يراه مصلحة، وإن بدا له ألا يعزره، وأن يكتفي بإرشاده لكونه في معنى هذا الرجل الذي أنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الغش، فله ذلك.
قال ابن القيم في الطرق الحكمية: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ: " لَهُ: وَلِصَاحِبِ الْحِسْبَةِ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ غَشَّ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ فِي خُبْزٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ عَسَلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السِّلَعِ، بِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي "الْمُدَوَّنَةِ": "إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَطْرَحُ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ فِي الْأَرْضِ"، أَدَبًا لِصَاحِبِهِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، وَقَالَ: لَا يُحِلُّ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ مَالَ إنْسَانٍ، وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا. وَذَكَرَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ - فِي الَّذِي غَشَّ اللَّبَنَ- مِثْلَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَقُلْت لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: فَمَا وَجْهُ الصَّوَابِ عِنْدَكُمَا فِيمَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ فِي الْوَزْنِ؟ قَالَا: يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ، وَمَا غَشَّ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، أَوْ غَشَّ فِي الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ: فَلَا يُهْرَاقُ وَلَا يُنْهَبُ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يَرُدُّهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، وَلْيَأْمُرْ ثِقَتُهُ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَأْمَنُ أَلَّا يَغُشَّ بِهِ، وَيَكْسِرُ الْخُبْزَ إذَا كَسَدَ، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ لِصَاحِبِهِ، وَيُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَسَلُ وَالسَّمْنُ وَاللَّبَنُ الَّذِي يَغُشُّهُ مِمَّنْ يَأْكُلُهُ، وَيُبَيِّنُ لَهُ غِشَّهُ، وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِي كُلِّ مَا غُشَّ مِنْ التِّجَارَاتِ، وَهُوَ إيضَاحٌ مَا اسْتَوْضَحْته مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُسْتَحْسَنَ عِنْدَهُ، أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، إذْ فِي ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ، وَنَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهُ. وَلَا يُهْرَاقُ. وَقِيلَ لِمَالِكٍ: فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ، أَتَرَاهُ مِثْلَهُ؟ قَالَ: مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ، إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ، فَهُوَ كَاللَّبَنِ. انتهى.
وبه يتبين لك أن عقوبة الغاشِّ معمول بها، مقررة عند أهل العلم.
والله أعلم.