الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فللنكاح شروط لا يصح دونها، وله موانع لا يصح معها، ويمكنك أن تراجعي في شروط النكاح الفتوى رقم: 1766.
ومن هذه الشروط موافقة وليّ المرأة على نكاحها، خلافا للحنفية، كما بيناه في الفتويين رقم: 111441، ورقم: 168401
وأما إعلان النكاح: فليس شرطا في صحته، كما بيناه في الفتوى رقم: 127689، بل من مستحباته، كما بيناه في الفتوى رقم: 22840.
ومن الموانع كون المرأة زانية حتى تتوب على أصح قولي أهل العلم، كما بيناه في الفتوى رقم: 38866.
ومن موانع صحة النكاح أن تكون المرأة معتدة أو في عصمة زوج آخر أو تكون خامسة، كل ذلك باتفاق أهل العلم، كما بيناه في الفتاوى التالية أرقامها: 144093، 66536 ، 61565.
ومجرد سجن الزوج لا يوجب فسخا ولا طلاقا، فما لم يطلقها زوجها السجين اختيارا، أو يفسخ القاضي عقدها بمسوغ شرعي معتبر ـ كعدم النفقة أوعدم استدامة الوطء على ما بيناه ورجحناه في الفتوى رقم: 43904 ، فهي على عصمة الأول، لأن طلاق المكره لا يقع، كما بيناه في الفتاوى التالية أرقامها: 40934 ، 71557 ، 101078
فما لم يحصل طلاق اختياري أو فسخ قضائي وتنقضي العدة فلا يحل نكاح أحد لهذه المرأة، لا أبيك ولا غيره، ولعل ما ذكرناه هو ما استندت إليه دار الإفتاء في بطلان عقد من أشرت إليه برمز ـ ع ـ على المرأة المذكورة، وأما إفتاء الدار بكونها مطلقة فلم ندر مستندها فيه، والخلاصة: أن عقد أبيك على هذه المرأة لا يصح طالما أن الحال فيه على ما ذكرت، وبالتالي فالواجب أن يفارقها فورا، وتحرم عليه الخلوة بها.
وأما موقفكم من هذا المنكر الذي يفعله والدكم: فيجب عليكم أن تغيروه بألسنتكم، ببذل النصح له ووعظه بالحكمة واللين وترغيبه وترهيبه بالله تعالى، فإن أصر عليه، فهل لكم أن تغيروه بأيديهم، بأن تطردوا هذه المرأة من البيت، أو تسلموها للشرطة ونحو ذلك، مما لا يتعلق بذات الوالد ولا يؤذيه في بدنه ولكنه يغضبه، فهذا محل خلاف بين العلماء، قال الغزالي في الإحياء: قد رتبنا للحسبة خمس مراتب، وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين، وهما التعريف، ثم الوعظ والنصح باللطف، ليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد، ولا بمباشرة الضرب، وهما الرتبتان الأخيرتان، وهل له الحسبة بالرتبة الثالثة ـ وهي المنع بالقهر بطريق المباشرة ـ حيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه، هذا فيه نظر، وهو بأن يكسر مثلاً عوده، ويريق خمره، ويحل الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير، ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين إذا كان صاحبه معيناً، ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته، ويكسر أواني الذهب والفضة، فإن فعله في هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب بخلاف الضرب والسب، ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه، إلا أن فعل الولد حق وسخط الأب منشؤه حبه للباطل وللحرام، والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك، بل يلزمه أن يفعل ذلك... اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: أجمع الفقهاء على أن للولد الاحتساب عليهما، لأن النصوص الواردة في الأمر والنهي مطلقة تشمل الوالدين وغيرهما، ولأن الأمر والنهي لمنفعة المأمور والمنهي، والأب والأم أحق أن يوصل الولد إليهما المنفعة ولكن لا يتجاوز مرتبتي التعرف والتعريف، وقد اختلف فيما يجاوز ذلك بحيث يؤدي إلى سخطهما.. ذهب الغزالي إلى أن للولد فعل ذلك... وذهب آخرون إلى عدم جواز ذلك، وهو مذهب الحنفية، ونقله القرافي عن مالك وهو أيضا مذهب أحمد. اهـ.
وراجعي في ذلك الفتويين رقم: 75858، ورقم: 133243.
والذي ذهب إليه الغزالي هو الأظهر، إن كان ذلك في أضيق الحدود وبالقدر الضروري فقط، حيث لا يوجد من يغير منكر الوالد غير أبنائه، وبشرط أن لا يُحدث ذلك مفسدة أكبر، أو ضررا على الأبناء، قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر: يأمر الولد أبويه وينهاهما برفق لا بتخويف ونحوه إلا إن اضطر إليه. اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي في كتاب القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للولد تغيير المنكر على والده بيده إن لم يحصل بسبب ذلك مفسدة أكبر، أو ضرر عليه في نفسه أو ماله أو أهله، وذلك لأن حق الله مقدم على حق الوالد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالولد يغيِّر المنكر على والده بيده مع القدرة وعدم المفسدة، ومع ذلك يستعمل معه التلطف في الخطاب، والترحم عليه والدعاء له، وبيان ضرر المعصية حتى يهدأ والده ويسكن إليه، ويعلم أن قصد ابنه محض النصح له والشفقة عليه والغيرة لله ولمحارمه. اهـ.
وذكر نحو ذلك الدكتور فضل إلهي في كتابه الاحتساب على الوالدين، ثم قال: ومما يدل على شرعية تغيير الولد للمنكر المتعلق بالوالد باليد ما أخبره الله تعالى عن كسر إبراهيم ـ عليه السلام ـ الأصنام التي كان يعبدها والده وقومه، قال عز من قائل: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ { الأنبياء: 51ـ 57} قال الشيخ ابن عاشور في تفسيره: ثم انتقل إبراهيم عليه السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلنا عزمه على ذلك بقوله: وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ـ مؤكدا عزمه بالقسم ـ وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: من هداية الآيات: تغيير المنكر باليد لمن قدر عليه مقدم على تغييره باللسان، والجمع بينهما أفضل.
وقال الدكتور محمود توفيق في فقه تغيير المنكر: إن كان لذي المنكر ولاية خاصة على من يقوم بتغيير منكره، كأن يكون ذو المنكر والد المغيِّر أو زوجها، فإن كان كذلك فتغيير المنكر باليد حينئذ يرجع إلى نوع المنكر ودرجته، فثَمَّ منكر يغير باليد، دون أن يلحق صاحب المنكر إيذاء في نفسه، فللولد والزوجة في مثل هذا تغيير المنكر باليد، إذا لم يترتب على ذلك ما هو أشدَّ ضرراً، وللولد أن يمنع أباه والزوجة زوجها من الإقدام على ما يتعلق به حق الآخرين، كمثل قتل أو سرقة أو إحراق مال... فذلك مما لا يحتمل تأخيراً في تغييره بالصد عنه.. وتغيير المنكر باليد ممن هو تحت ولاية ذي المنكر، إنما يجب عليه حين لا يكون غيره أهلاً للقيام به، أو كانت الملابسات لا تسمح باللجوء إلى آخرين للقيام بذلك، فإن كان فيمن حولهم، من يكون أهلاً للقيام بذلك حق قيامه، فالأولى أن يلجأ الولد إليهم لتغيير منكر والده بما يستحق. اهـ.
وأما رفع أمر الوالد إلى الشرطة أو الجهات الأمنية: فهذا إن ترتب عليه إيذاء أو عقوبة بدنية للوالد، فلا يجوز، قال الغزالي في الإحياء: ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم، إذ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً، ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه، بل لا يباشر قتل أبيه الكافر، بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص، ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته، وقد ورد في ذلك أخبار وثبت بعضها بالإجماع، فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة، فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة، بل أولى. اهـ.
وأما إذا كان إبلاغ الشرطة لن يترتب عليه أذى أو عقوبة بدنية على الوالد، وكان في ذلك منعه من المنكر، فلا حرج ـ إن شاء الله ـ في الإبلاغ عنه حينئذ، فقد ذكر السَّنَامي في نصاب الاحتساب بالفارسية قصة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مع ابنة صاحبة اللبن التي أمرتها أن تخلطه بالماء، وعدَّ فيها جملة من الفوائد، فكانت الخامسة منها أنه: يجوز للولد أن يمنع والديه عن الكذب كما منعت تلك البنت أمها، والسادسة أنه: يجوز للولد أن يخبر المحتسب بمعصية والديه إذا علم الولد أن الوالدين لا يمتنعان بموعظته، كما أخبرت تلك البنت عمر ـ رضي الله عنه ـ عن معصية أمها، إذ لو لم يجز لمنع عمر ـ رضي الله عنه ـ تلك البنت عن ذلك. اهـ.
والله أعلم.