الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العمل في الوساطة التجارية، وهو ما يسمى بالسمسرة، جائز من حيث الأصل، فالسمسرة تعد من باب الجعالة الجائزة، قال البخاري في صحيحه: باب أجرة السمسرة: ولم ير ابن سيرين، وعطاء، وإبراهيم، والحسن بأجر السمسار بأسًا. اهـ. وانظر الفتوى رقم: 5172.
وأما ما يتعلق بالوساطة في الصفقات التي يشك أنه سيحدث فيها محرم، كالاختلاط، فيقال: إن الشك لا يوجب تحريم الإعانة على الصفقات بالعمل وسيطًا، أو نحو ذلك بلا إشكال، فإن بيع ما يستعان به على المحرم لمن يشك في استخدامه، ليس بمحرم.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية - في الكلام عن بيع العصير لمن يتخذه خمرًا -: إذا لم يعلم البائع بحال المشتري، أو كان المشتري ممن يعمل الخل والخمر معًا، أو كان البائع يشك في حاله، أو يتوهم: فمذهب الجمهور الجواز، كما هو نص الحنفية، والحنابلة، ومذهب الشافعية أن البيع في حال الشك، أو التوهم مكروه. اهـ.
ومع حصول العلم بحصول الاختلاط في الدورة التدريبية، أو الاختلاط بعد أخذ الدورة: فهذا لا يوجب تحريم الوساطة فيها - فيما يظهر - إذ الاختلاط ليس هو المقصود في الصفقة، فالإعانة هنا ليست مقصودة، ولا مباشرة، فلا تحرم.
وقد ناقش مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا موضوع ضابط الإعانة على الإثم والعدوان، في دورته الخامسة التي انعقدت بالبحرين ، وكان خلاصة ما توصلوا إليه أن الإعانة على الإثم والعدوان أربعة أقسام:
1- مباشرة مقصودة: كمن أعطى آخر خمرًا بنية إعانته على شربها.
2- مباشرة غير مقصودة: ومنه بيع المحرمات التي ليس لها استعمال مباح؛ إذا لم ينو إعانتهم على استعمالها المحرم.
3- مقصودة غير مباشرة: كمن أعطى آخر درهمًا ليشتري به خمرًا، ومنه القتل بالتسبب.
4- غير مباشرة، ولا مقصودة: كمن باع ما يستعمل في الحلال والحرام، ولم ينو إعانة مستعمليه في الحرام، وكمن أعطى آخر درهمًا لا ليشتري به خمرًا، فإن اشترى به خمرًا وشربه، فلا إثم على من أعطاه الدرهم، طالما لم ينو به إعانته على المحرم، ومن هذا القسم الرابع البيع والشراء، والإجارة من المشركين، وفساق المسلمين، والتصدق عليهم بالمال.
وقد كان قرار المجمع تحريم الأنواع الثلاثة الأولى، وإباحة القسم الرابع، وهو ما ليس مباشرًا، ولا مقصودًا. اهـ. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 104275.
وكذلك الشك في كون أموال الصفقة محرمة، لا يوجب تحريم الإعانة عليها، فإن الأصل في الأشياء الحل والإباحة، ولا يلزم البحث عن مال المتعاقدين هل فيه حرام أم لا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما في الوجود من الأموال المغصوبة، والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض، إن عرفه المسلم اجتنبه، فمن علمت أنه سرق مالًا، أو خانه في أمانته، أو غصبه فأخذه من المغصوب قهرًا بغير حق، لم يجز لي أن آخذه منه، لا بطريق الهبة، ولا بطريق المعاوضة، ولا وفاء عن أجرة، ولا ثمن مبيع، ولا وفاء عن قرض، فإن هذا عين مال ذلك المظلوم، وإن كان مجهول الحال: فالمجهول كالمعدوم، والأصل فيما بيد المسلم أن يكون ملكًا له إن ادعى أنه ملكه، فإذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده، بنيت الأمر على الأصل، ثم إن كان ذلك الدرهم في نفس الأمر قد غصبه هو، ولم أعلم أنا، كنت جاهلًا بذلك، والمجهول كالمعدوم، لكن إن كان ذلك الرجل معروفًا بأن في ماله حرامًا، ترك معاملته ورعًا، وإن كان أكثر ماله حرامًا، ففيه نزاع بين العلماء، وأما المسلم المستور فلا شبهة في معاملته أصلًا، ومن ترك معاملته ورعًا، كان قد ابتدع في الدين بدعة ما أنزل الله بها من سلطان. اهـ بتصرف يسير من مجموع الفتاوى.
والتعاملات المباحة - كالتحويل، ونحوه - مع البنوك الربوية عند الحاجة إليها، وعموم البلوى بها، ليس بمحرم.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: إيداع المال في البنوك التي تتعامل بالربا لا يجوز، وإن لم يؤخذ عليها فائدة؛ لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} إلا إذا خاف المسلم على ماله الضياع، ولم يجد سبيلًا إلى حفظه إلا إيداعه في بنك ربوي؛ فيرخص له في ذلك بلا فائدة على هذه الوديعة؛ ارتكابًا لأخف الضررين، وتفاديًا من أشدهما. اهـ. وانظر الفتوى رقم: 102850.
والله أعلم.