السؤال
في الفتوى رقم: 228853، ذكرتم أقوال العلماء المتقدمين في جواز الصلاة بملابس ضيقة، ولم تستدلوا على أقوال العلماء بآية من القرآن صريحة أو حديث صحيح على صحة قولهم، والإمام أحمد بن حنبل يقول: رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار ـ ابن عبد البر في الجامع 2ـ 149.
ويقول الإمام أحمد: لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا ـ ابن القيم في إعلام الموقعين 2ـ 302.
ويقول الإمام الشافعي: كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي أولى، فلا تقلدوني ـ ابن عساكر بسند صحيح 15ـ 9 ـ 2.
في حين أن د. حسام الدين عفانة قال: نص أهل العلم على أنه يجب على المرأة إذا صلت أن تستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، ومن ضمن شروط لباس المرأة أن يكون لباسها فضفاضًا غير ضيق فيصف شيئًا من جسمهاـ ثم استدل بحديث وآثار تدل على وجوب أن تصلي المرأة في ثياب واسعة، وأصرح دليل منها قول عائشة: لا بُدَّ للمرأةِ من ثلاثةِ أثوابٍ تصلي فيها: دِرع وجلباب وخِمارـ وكانت عائشة تحل إزارها، فتتجَلبب به ـ أخرجه ابن سعد 8ـ 71ـ بإسناد صحيح على شرط مسلم، كما قال الألباني في جلباب المرأة المسلمة: ص134ـ كانت عائشة تفعل ذلك، لئلا يصفها شيء من ثيابها، قال الألباني: وقولها: لا بد ـ دليل على وجوب ذلك ـ جلباب المرأة المسلمة: ص135ـ وأكد الشيخ حسام الدين عفانة قول الألباني: لا بُدَّ ـ دليل على وجوبه، كما استدل بحديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصَلي المَرْأة فِي دِرْع وَخِمَار ليْسَ عَليْهَا إزَارٌ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابـِغًا ـ ساترًا ـ يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا ـ والحديث وإن كان الشيخ الألباني قد ضعفه في ضعيف أبي داود ـ الكتاب الأم، جزء1ـ ص222-224، حديث رقم: 99ـ لكن رغم ضعفِ الحديثِ، فالعملُ عليه: كما هو قول الجمهور، لأنه من جملةِ الشواهدِ التي تقوي بعضها بعضًا، واللهُ أعلم ـ روابط فتوى: الدكتور حسام الدين عفانة هي:
goo.gl/bGAc7J
goo.gl/EMLwIv
goo.gl/WKvEam
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فنشكر الأخ السائل لتواصله معنا, وهذا هو السؤال الثاني للأخ السائل عن نفس الموضوع وقد أجبناه عن سؤاله السابق في الفتوى المشار إليها وبينا له أقوال العلماء في صحة الصلاة في الثوب الضيق إذا كان لا ترى من ورائه البشرة، وأننا لا نعلم قائلًا ببطلان الصلاة فيها من الأئمة المشهورين, والعلماء المتقدمين, وغاية ما وقفنا عليه في القول بالبطلان أنه وجه عند الشافعية قال عنه النووي إنه غلط ظاهر، فقد قال في الموجموع: فَلَوْ سَتَرَ اللَّوْنَ وَوَصَفَ حَجْمَ الْبَشَرَةِ كَالرّكْبَةِ وَالْأَلْيَةِ وَنَحْوِهِمَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ فِيهِ لِوُجُودِ السَّتْرِ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إذَا وَصَفَ الْحَجْمَ وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ. اهـ.
وقولك: إننا لم نستدل على أقوالهم بدليل ـ جوابه أن القول ببطلان الصلاة هو الذي يحتاج إلى دليل، إذ الأصل صحتها، والقول ببطلان عبادة الناس يحتاج إلى دليل شرعي، فلا يُقدم عليه بدونه, وهذا الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى مع علو قدره وسعة علمه ـ حين نص على عدم إعادة صلاة الرجل باللباس الضيق إذا لم يشف عن اللون لم يجرؤ على القول ببطلان صلاة المرأة، بل قال: والمرأة أشد حالاً من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها، وأحب إليّ أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك وتجافيه عنها، لئلا يصفها الدرع ـ فهل رأيته حكم ببطلان صلاتها؟.
وما ذكرته من أقوال السلف في النهي عن التقليد: نحن نقول به ونوافقك عليه، ولكن ليس بابه ما نحن فيه, وهم أنفسهم كما نهوا عن التقليد نهوا أيضا أن يقول الرجل قولا لم يسبقه إليه أحد, قَالَ المَيْمُوْنِيُّ: قَالَ لِي أَحْمَدُ: يَا أَبَا الحَسَنِ، إِيَّاكَ أَنْ تَتَكلّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَكَ فِيْهَا إِمَامٌ. اهـ.
قال ابن القيم عن الإمام أحمد رحمه الله: وَكَانَ شَدِيدَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَنْعِ لِلْإِفْتَاءِ بِمَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ عَنْ السَّلَفِ، كَمَا قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ. اهـ.
وأيضا لا يمكن إهمال فهم هؤلاء العلماء للنصوص الشرعية بحجة عدم التقليد ولذا، قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ في آخر كتابه الاعتصام بعد أن ذكر قول مالك رحمه الله: لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا ـ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ ـ يُتَّبَعُ عليه: إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ الرجال، فالحق أيضاً لا يعرف دون وساطتهم، بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلة على طريقه. اهـ.
وما ذكرته من حديث أم سلمة وعائشة ـ رضي الله تعالى عنهما ـ لم يخفَ على أولئك الأئمة حتى يُقال اتركوا قولهم واعملوا بالدليل, بل ذكروه في كتبهم, فحديث أم سلمة رواه مالك في الموطأ, وذكره فقهاء المالكية الذين هم أدرى الناس بقول مالك ومذهبه، ومع ذلك نصوا على كراهة الصلاة في الثوب الضيق ولم يروا بطلانها, وأيضا الحديث ذكره النووي في المجموع وابن قدامة في المغني وغيرهما من فقهاء الشافعية والحنابلة والحنفية ولم يفهموا منه بطلان الصلاة في الثوب الضيق إذا لم يشف عن البشرة, وأيضا أثر عائشة رضي الله عنها: لا بُدَّ للمرأةِ من ثلاثةِ أثوابٍ تصلي فيها: دِرع وجلباب وخِمار ـ هذا ليس فيه دليل على اشتراط أن يكون اللباس فضفاضا، إذ لو صلت امرأة في درع وجلباب ضيقين وليسا فضفاضين ـ مع تغطية رأسها بالخمار ـ فإنها يصدق عليها أنها صلت في ثلاثة أثواب وأنها فعلت ما لا بد منه. فهل ستقول ببطلان صلاتها حينئذ استدلالا بأثر عائشة؟!
والخلاصة أننا لم يظهر لنا القول ببطلان الصلاة، ومتى ظهر لنا ذلك فإننا سنقول به ولن نتردد، لأن الحق هو ضالتنا, ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك إلى الحق ويعفو عن زللنا وتقصيرنا.
والله أعلم.