الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فينبغي ـ قبل تناول موضوع السؤال ـ أن ننبه على أن المؤمن يدفع الشبهات الجزئية عن نفسه بكليات عقيدته الثابتة التي لا تقبل الشك، وهذا من جملة رد المتشابه إلى المحكم، وتلك هي سمة الراسخين في العلم، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ {آل عمران: 7}.
قال ابن كثير: يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات، هن أم الكتاب، أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى: هن أم الكتاب ـ أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه: وأخر متشابهات ـ أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد... وهذا أحسن ما قيل فيه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار ـ رحمه الله ـ حيث قال: منه آيات محكمات هن أم الكتاب ـ فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، قال: والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق. اهـ.
وقال السعدي: فيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. اهـ.
وأما جواب ما استشكله السائل: فمبناه على التفريق بين أصل الديانة من التوحيد وأصول الإيمان ـ فهذا واحد في جميع الرسالات السماوية، ولازم لجميع البشر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد. متفق عليه.
وبين فروع الشرائع، فهذه تختلف بين الأنبياء، وليس هناك من شريعة عامة لازمة لجميع البشر إلى يوم القيامة إلا شريعة الإسلام، وراجع الفتوى رقم: 221065.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ـ فذكر منها: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: ظاهره يقتضي أن كل واحدة من هذه الخمس لم تكن لأحد قبله، ولا يعترض على هذا بأن نوحا ـ عليه السلام ـ بعد خروجه من الفلك كان مبعوثا إلى أهل الأرض، لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه، وقد كان مرسلا إليهم، لأن هذا العموم في الرسالة لم يكن في أصل البعثة، وإنما وقع لأجل الحادث الذي حدث، وهو انحصار الناس في الموجودين لهلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته في أصل بعثته، وأيضا فعموم الرسالة: يوجب قبولها عموما في الأصل والفروع، وأما التوحيد وتمحيص العبادة لله عز وجل فيجوز أن يكون عاما في حق بعض الأنبياء، وإن كان التزام فروع شرعه ليس عاما، فإن من الأنبياء المتقدمين ـ عليهم السلام ـ من قاتل غير قومه على الشرك وعبادة غير الله تعالى، فلو لم يكن التوحيد لازما لهم بشرعه أو شرع غيره لم يقاتلوا ولم يقتلوا... ويجوز أن تكون الدعوة على التوحيد عامة، لكن على ألسنة أنبياء متعددة، فثبت التكليف به لسائر الخلق، وإن لم تعم الدعوة به بالنسبة إلى نبي واحد. اهـ.
وقال الدكتور حياة بن محمد بن جبريل في رسالته العلمية (الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة): ـ ويحتمل أن يكون الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شيء من شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته، ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس فتمادوا على الشرك فاستحقوا العقاب. اهـ.
وأما بقية إشكال السائل فجوابه أن الأرض لم تخل من قائم لله بحجة على خلقه، وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى رقم: 128140.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 9475، 59579، 111537.
وأخيرا نلفت نظر السائل الكريم إلى قاعدة أن: عدم العلم ليس علما بالعدم ـ فهي قاعدة مهمة لابد من استصحابها في تناول موضوع سؤاله، وحسبنا في ذلك قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ {النساء: 164}.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ {غافر: 78}.
ومن جملة ذلك: اعتقاد أن كتب الديانات الشرقية كالهندوسية قد خلت من البشارة بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم فهذا ليس بصحيح، بل كتبهم فيها الكثير من البشارات الواضحة، كما هو حاصل في التوارة والإنجيل!! وللوقوف على تفصيل ذلك ونصوصه نحيلك إلى الموسوعة النافعة الماتعة للشيخ صفي الرحمن المباركفوري المسماة: وإنك لعلى خلق عظيم ـ ففي المجلد الأول منها فصل بعنوان: محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل وكتب الأولين ـ ويليه فصل: البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم عند الهندوس ـ وقد احتلت نصوص هذا الفصل أكثر من مائة صفحة من هذا المجلد، من صفحة 371 إلى نهاية المجلد صفحة: 487 ـ فراجعه للأهمية.
والله أعلم.