الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما انتهت إليه الفتوى المذكورة من حيث الترجيح ـ وهو قول ابن الجوزي رحمه الله - لا نراه راجحاً، بل الراجح عندنا هو حرمة النمص مطلقاً، فهذا أسعد الأقوال بالدليل وأقربهم للتنزيل، وقد سبق لنا في عدة فتاوى بيان معنى النمص وحكمه وأدلته، ومناقشة بعض ما قيل فيه من أقوال ضعيفة، فراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام: 102335، 75840، 134126، 8472، 22244.
إلا إن لنا بعض الملاحظات على فتوى الشيخ الطنطاوى رحمه الله تعالى تفريعا وتأصيلا، وسنقتصر من ذلك على ملاحظتين، إحداهما تتعلق بالفرع، والأخرى تتعلق بالتأصيل، ليدل ذلك على ما وراءها إن شاء الله.
أما التي تتعلق بالفرع، وهو حكم النمص ذاته، فقول الشيخ: رواة الحديث لم يشرحوا لنا المراد من كلمة النامصة... النمص في اللغة النتف، وفي الجسم مواضع جوز الشرع نتف الشعر منها... الخ.
نقول: أما رواة الحديث فبين بعضهم ذلك، ومن أشهرهم الإمام أبو داود، فقال بعد رواية الحديث: تفسير الواصلة التي تصل الشعر بشعر النساء، والمستوصلة المعمول بها. والنامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه، والمتنمصة المعمول بها.. اهـ.
فخصه بالحاجبين، وجمهور الفقهاء كما في الموسوعة الفقهية: ذهبوا إلى أن نتف ما عدا الحاجبين من شعر الوجه داخل أيضا في النمص. اهـ.
والذي يعنينا الآن هو أن أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا لم يوسع مفهوم النمص ليتناول ما عدا شعر الوجه، لنحتاج بعد ذلك أن ننبه على أن في الجسم مواضع جوز الشرع نتف الشعر منها... الخ !!! فغاية ما هنالك أن العلماء اختلفوا في تخصيص النمص بالحاجبين أو تعميمه ليشمل الوجه كله. ولذلك نص من وقفنا على كلامه من شراح الحديث كالحميدي والخطابي والقاضي عياض والنووي والبغوي وابن الجوزي وابن حجر والعيني والسيوطي والمناوي والقاري والمباركفوري والعظيم آبادي على أن النمص هو نتف الشعر من الوجه. وعلى ذلك نص كثير من أئمة اللغة كأبي عبيد القاسم بن سلام والفراء والأزهري.
وأما ما يتعلق بترجيح ابن الجوزي والذي وصفه الشيخ بأنه أوجه الأقوال فهو مخالف لظاهر الحديث، بل إنه عند التحقيق يخرج الحديث عن معناه، وبيان ذلك أن الحديث نص على العلة، وهي: تغيير خلق الله طلبا للحسن. ولو كانت العلة هي كون ذلك شعارا للفاجرات، لم يكن لتخصيص هذه الأشياء فائدة، فإن كل ما هو شعار للفاجرات محظور، سواء من هذه الأشياء المذكورة في الحديث أو من غيرها. ومما يؤكد ذلك: سياق حديث ابن مسعود، فإن أم يعقوب لما سألت ابن مسعود وذكر لها الحديث، قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه؟ قال: فاذهبي فانظري. فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا.
وهذا يدل دلالة قاطعة على أن النمص لم يكن شعارا للفاجرات، وإلا لم تعترض أم يعقوب ابتداء، ثم لم تظن انتهاء أن امرأة ابن مسعود وهي من فضليات الصحابة تفعله.
على أن ما ذكر الشيخ الطنطاوي نفسه أنه فهمه من كتب الفقه يخرج على هذا الضابط أيضا، كقوله: نتف الحاجب كله أو نتفه إلا خطا رقيقا لا يجوز فإن هذا لم يعد من شعار الفاجرات، بل يفعله كثير من العفيفات.
وأخيرا.. فمما يبين رجحان حرمة النمص مطلقا، هو اتفاق الفقهاء على حرمة تفليج الأسنان للحسن مطلقا وهو قرينه في الحديث من غير تقييد بكونه شعارا للفاجرات، أو تقييده بغر المتزوجات. كما جاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على أن تفليج الأسنان لأجل الحسن حرام، سواء في ذلك طالبة التفليج وفاعلته. اهـ.
وأما ما يتعلق بالتأصيل، فإن حد الكبيرة وضابطها مسألة قديمة قدم الإسلام نفسه، وقد تكلم أهل العلم في ذلك قديما وحديثا، ولكن لم نجد من وضع ما وضعه الشيخ رحمه الله من ضابط للكبيرة، باعتبار ما فيها من إهدار لواحد من المصالح الخمس الأصلية، أو تفويت لما سماه الشيخ بالأمن الداخلي أو الخارجي. وأما ما جاء فيه اللعن مما لا يدخل تحت هذا الضابط فيكون النهي فيه حالة خاصة أو صفة خاصة.
وهذا الضابط نفسه يحتاج إلى ضابط، فما من شيء من المنهيات وإلا ويمكن إرجاعه لمصلحة من المصالح الخمس الكلية أو إدخاله في مسمى الأمن الداخلي أو الخارجي. ناهيك عن افتقار أصل ذلك إلى البرهان الشرعي، لأن الحكم بمجرد الحل أو الحرمة، فضلا عن الكبائر، إنما يعتمد على أدلة الشرع، وليس للذوق الشخصي أو الرأي المجرد مجال في ذلك.
وأما مسألة اللعن، فهناك أنواع ثابتة منه يتعسر ضبطها بما ذكره الشيخ رحمه الله ومن ذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال. رواه البخاري. ولعنه صلى الله عليه وسلم من نصب الحيوان الحي هدفا يرميه. رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل. رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني. وقوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور. رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان والبوصيري والألباني. وقوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله من يسم في الوجه. رواه الطبراني، وصححه الألباني. وقوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله قاطع السدر. رواه الطبراني والبيهقي، وصححه الألباني. وغير ذلك كثير. ولمعرفة كلام أهل العلم الراسخين في ضابط الكبيرة يمكن مراجعة الفتوى رقم: 123437، ففيها ما يشفي ويكفي إن شاء الله.
هذا، ولابد من التنبه إلى أن الكبائر نفسها ليست على درجة واحدة، بل بعضها أشد وأكبر من بعض، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى ذنوبا معينة: أكبر الكبائر، فقال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور. رواه البخاري ومسلم. وهذا يعني أن هناك كبائر دون ذلك. وراجع في هذا المعنى الفتوى رقم: 48472.
والله أعلم.