السؤال
لماذا خلق الله تعالى الإنسان وجعله خليفة في الأرض، والإنسان دائماً يقع في المعصية ولم يجعل مكانه الملائكة، ولماذا خلق الله عز وجل الملائكة وهو الغني عن العالمين؟
لماذا خلق الله تعالى الإنسان وجعله خليفة في الأرض، والإنسان دائماً يقع في المعصية ولم يجعل مكانه الملائكة، ولماذا خلق الله عز وجل الملائكة وهو الغني عن العالمين؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالشطر الأول من السؤال يشبه سؤال الملائكة، فإنهم لما قال الله تعالى لهم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً {البقرة: 30}، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ فكان الجواب من الله سبحانه: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة:30}، فالله تبارك وتعالى لا تحيط بحكمته وعلمه الملائكة فضلاً عن البشر...
قال ابن كثير عن سؤال الملائكة: هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك... ولا يصدر منا شيء من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء، والصالحون والعباد، والزهاد والأولياء، والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ يقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر.. فقولهم: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون. من تفسير قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. انتهى.
وقال ابن القيم: أجابهم تعالى عن هذا السؤال بأن له من الحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة، وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالح وحكماً لا تعلمونها أنتم.. وقد ذكرنا منها قريباً من أربعين حكمة في كتاب (التحفة المكية) فاستخرج تعالى من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين وعمر بهم الجنة وميز الخبيث من ذريته من الطيب فعمر بهم النار، وكان من ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم يكن للملائكة تعلمه.... بدائع الفوائد.
وقد بين ابن القيم شيئاً من ذلك في مواضع أخرى من كتبه منها (مدارج السالكين، وشفاء العليل، ومفتاح دار السعادة).
وقال رحمه الله: الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والعلو والسفل والطيب والخبيث والخفيف والثقيل والحلو والمر والبرد والألم واللذة والحياة والموت والداء والدواء، فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة ومحل ظهور القدرة القاهرة والمشيئة النافذة والملك الكامل التام، فتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها وذلك عين المحال، فإن لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثراً هو مظهر كمالها وإن كانت كاملة في نفسها لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها، فلا يجوز تعطيله فإن صفة القادر تستدعي مقدوراً، وصفة الخالق تستدعي مخلوقاً، وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرؤوف تستدعي آثارها وأحكامها... فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه، لم يظهر كمالها وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها، فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء والأسماء الحسنى، وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها، فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف. شفاء العليل.. وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخرى من كتبه منها (مدارج السالكين- وطريق الهجرتين).
وفي هذا الكلام ملمح للإجابة عن الشطر الثاني من السؤال أيضاً، فلا شك أن الله غني عن العالمين فلم يخلق الله تعالى الخلق لحاجة أو منفعة تعود عليه سبحانه، قال الله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {لقمان:26}، ولكن اقتضت حكمته تعالى أن يخلق الخلق على هيئة تظهر بها آثار أسمائه وصفاته، قال ابن القيم: سر هذا الباب أنه سبحانه كامل في أسمائه وصفاته فله الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما وهو يحب أسماءه وصفاته ويحب ظهور آثارها في خلقه فإن ذلك من لوازم كماله... فإذا كان يحب العفو والمغفرة والحلم والصفح والستر لم يكن بد من تقديره للأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها ويستدل بها عباده على كمال أسمائه وصفاته ويكون ذلك أدعى لهم إلى محبته وحمده وتمجيده والثناء عليه بما هو أهله فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق وإن فاتت من بعضهم فذلك لفوات سبب لكمالها وظهورها فتضمن ذلك الفوات المكروه له أمراً هو أحب إليه من عدمه فتأمل هذا الموضع حق التأمل وهذا ينكشف يوم القيامة للخليقة بأجمعهم حين يجمعهم في صعيد واحد ويوصل إلى كل نفس ما ينبغي إيصاله إليها من الخير والشر واللذة والألم حتى مثقال الذرة ويوصل كل نفس إلى غاياتها التي تشهد هي أنها أولى بها فحينئذ ينطق الكون بأجمعه بحمده تبارك وتعالى قالا وحالا كما قال سبحانه وتعالى: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. روضة المحبين...
وللمزيد من الفائدة يمكن مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 31767، 53994، 44950.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني