حالات الوساوس القهرية وارتباطها بالاكتئاب والقلق النفسي
2006-06-29 11:03:55 | إسلام ويب
السؤال:
السلام عليكم.
أود في بادئ الأمر أن أشكركم جزيل الشكر، على ما تسدونه من مجهودات لصالح المسلمين، فجزاكم الله عنا خير الجزاء، أما بعد:
فمشكلتي أراها أعوص ما يكون؛ لأنها تحوي مشاكل عديدة وفي نفس الإطار، وأستسمحكم من الآن؛ لأن مشكلتي طويلة ومعقدة.
أنا شابة في الـ 22 من عمري، مشكلتي بدأت منذ الصغر حيث كنت أعاني - وما زلت - من وسواس قهري شديد يتعبني نفسياً وبدنياً، أعاني من وسواس النظافة، ووسواس الأفكار التسلطية ووسواس الخوف، لدرجة أني كنت في صغري أكره من يقبلني! إذ كان الناس وأقاربي يقبلونني بشكل كبير، ويقال أني لذيذة وجميلة!
كما كنت أكره فراشي الذي كنت أنام فيه، لو أن أحداً آخر من إخوتي نام فيه، كما كنت أكره أن أشرب من نفس الكأس، حتى المراحيض أخشى دخولها ولو كانت نظيفة، ناهيك عن الاستحمام!
لقد كنت أعيش العذاب! ليس هذا فقط، فإلى جانب وسواس النظافة، كان وسواس الأفكار التسلطية والخوف والتشاؤم، لقد كنت - ولا زلت - لا أنقطع عن التفكير، وتتملكني أفكار تافهة أكبر من حجمها، وأخشى دائماً المجهول وما سيجيء بعد ذلك! كما أني كنت ولا زلت أخشى النوم في الظلام، وأخشى البقاء وحدي في البيت، وأخشى الخروج وحدي؛ لأني كنت - ولازلت - أخاف إن خرجت وحدي أن يعتدى علي جنسياً أو يحدث لي مكروه!
أيضاً أنا فتاة ثورية، إذ أني أحس بأن مجتمعنا يحرم الفتاة حقوقها، ويصادر آراءها ولا يفهمها، ودائماً ألسن الناس وراءها، علماً بأني إنسانة رقيقة القلب وحساسة لأقصى الحدود، وتخشى الله تعالى! وتؤمن بالقدر خير الإيمان، والناس كلهم يرون في القدوة الصالحة والفتاة العفيفة العاقلة، لا تفاخرا ولكن هذا صحيح.
كما أسلفت الذكر، أنا فتاة متمردة على مجتمعنا الذي أرى فيه أنه أبتعد عن إسلامنا الصحيح فظلمت المرأة فيه، ونتج عن تمردي على المجتمع ـ وتقاليده التي لا تمت للدين بصلة ـ كرهي للرجال، مع أني أحب أبي حباً كبيراً وأخي لأنهما حنونان جداً ويخافان الله في عائلتي، وأبي ربانا ولله الحمد تربية صالحة، وزرع فينا خشية الله وكل معاني وقيم إسلامنا العظيم.
في صغري كنت تلك الفتاة السهلة الهادئة عند عائلتي؛ لأن كل المشاكل كانت بداخلي وأخشى البوح بها، وعندما وصلت سن المراهقة أصبحت فتاة عصبية لأقصى الحدود مع تفوقي دائماً في الدراسة.
عصبيتي غذتها الوساوس القهرية التي كنت أقاسيها، لم أكن أصارح أمي بكل ذلك؛ لأنها رغم حنانها لم تنصت لي يوماً، كما كنت أرفع صوتي عليها عندما أغضب وكنت دائماً أندم على فعل ذلك، وأعاهد نفسي أن أتمالك أعصابي في المرة القادمة، لكن دون جدوى! مع أني كنت أعلم بالغ العلم بسخط الله على من يعق والديه، فكنت أعاني وأتعذب داخلياً، وأعتزل الناس مع نفسي وأجهش بالبكاء، كان البكاء الحل الوحيد لأفرغ ما بداخلي.
علماً بأن أبي هاجر إلى الخارج للعمل منذ صغري، فلذا كانت الضغوطات كلها على أمي، حتى كنت أشفق عليها ولا أتوقف عن تأنيب نفسي، ولكن دون جدوى مع العلم أننا أسرة متضامنة ومحافظة وتقية.
كنت أيضاً أعاني من مرض زاد علي المعاناة وضاعفها، حيث كنت أعاني من حساسية الأمعاء الدقيقة، وكنت على الأقل مرة كل أسبوع يغمى علي؛ بسبب الإسهال الشديد الذي كان يصيبني.
وفي سن 17 سنة، تمكن أبي من جمع شملنا به وإدخالنا إلى فرنسا، هذا البلد الذي طالما حلمت بأنه سيحقق أحلامي الدراسية العلمية، مع مجيئنا اصطدمت بهذا المجتمع البعيد كل البعد عن ثقافتنا، ولا تربطنا به أي صلة! رغم حبي للدراسة قررت التمسك بديني ومتابعة دراستي، والحمد لله فقد نجحت في الأولى، لكن دراستي باءت بالفشل؛ لأنني فوجئت بتغير حالتي الصحية 180 درجة، فأصبحت هزيلة وضعيفة البنية وذهبت كل قواي، فتركت الرياضة وأصبحت تحركاتي ضئيلة، وأصبحت أتقوقع كثيراً في البيت، ولا أخرج إلا للدراسة، وأصبحت معدلاتي ضعيفة بعد أن كنت من الأوائل!
تدهورت صحتي ونفسيتي، وأصابني الاكتئاب البالغ، حتى الأطباء احتاروا واحتارت عائلتي، وعندها تعرفت على شاب في مثل سني، هاجر في نفس الظروف، وقد أغرم بي لدرجة الجنون، فتزوجنا رغم ترددي الكبير لأني كما قلت لكم أكره الرجال! ووقعت في حبه ولم أكن أتصور أنه يوجد رجال حنونون، فتزوجته شرعياً، وهو نعم الزوج؛ فهو حنون ويخشى الله في، وعطوف وحساس مثلي.
عندما تزوجنا كنت في الثانوية العامة، ولمرضي فشلت فأصابني الاكتئاب والخمول، وزادت حالتي الصحية تدهوراً، حتى كدت أفارق الحياة؛ لأني أصبحت غير قادرة على المشي، وضعفت بنيتي كثيراً، وأصبحت شبحا منهك القوى.
اكتشف الأطباء أخيراً أن عندي حساسية من القمح والحليب (Gluten et le lactose) فعملت (Régime) وأنا في تحسن، لكن بعد فشلي في الدراسة، أنا الآن - رغم تحسن الصحة - مكتئبة وأكره كل من حولي، وثقتي بنفسي منعدمة تماماً، ولا أحب فعل أي شيء.
لقد مر عام على زواجي، وصارحت زوجي في البداية بكل مشاكلي النفسية؛ لخوفي أن أظلمه، فاندهشت من تفهمه لي، وإرادته مساعدتي ومصارحته لي، بأني إنسانة (غير طبيعية)، أنا إنسانة حساسة جداً، وضعيفة لدرجة أن زوجي دخل بي بعد شهرين من زواجنا، وصبر لأنه يحبني ومتفهم لحساسيتي.
عرض علي زوجي أن أعرض نفسي على طبيب نفسي، وأنا مترددة؛ لأني أعلم أن الأطباء هنا كفار! وأفضل طبيباً من نفس ثقافتي وديني، إنني أعيش حالياً عذاب ذكريات الصغر السوداء، وتفاقمها في الكبر، وأنا الآن أتعذب وأعاني ولم أجد حلاً منذ الصغر، ساعدوني أناشدكم الله، فأنا أتعذب!
علماً بأن مشاكلي النفسية المذكورة في البداية، أعانيها حتى الآن مع العصبية الزائدة عن الحد، لقد جربت كل شيء بلا جدوى، وأحمد الله تعالى لأنه بعث لي زوجاً يحبني، ويفهمني ويخشى الله في.
كنت قد بدأت حفظ القرآن الكريم بمساعدة زوجي لي؛ لأنه حامل لكتاب الله ويدرس العلوم الشرعية، وهو داعية وطالب متفوق. أحس أن دماغي سينفجر، أنا لست راضية عن نفسي، ولا أفعل شيئاً، حتى الأطفال عندي مشكلة معهم، وهي أني لا أحب الأطفال، أحس أني إنسانة مريضة وغير طبيعية، أنا مكتئبة! ساعدوني أرجوكم
أعتذر عن الإطالة، سامحوني.
الإجابــة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخت الفاضلة/ Donia حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فجزاك الله خيراً على رسالتك الدقيقة والعميقة المحتوى.
بالطبع لقد قمت بسرد الكثير من الأعراض النفسية، والتي في نظري أنها كلها تتمركز حول إصابتك بالوساوس القهرية منذ الصغر، وهذا ليس بمستغرب؛ لأن الوساوس القهرية يمكن أن تظهر في سنٍ مبكرة، ولكن حين تكون في الصغر لا تكون مصحوبة بالقلق والتوتر، ولا يعتبرها الإنسان أفكارا أو أفعالا سخيفة، ولكن بمرور الزمن ربما تزداد أو ربما تقل.
ويعرف أن مرحلة الطفولة هي من حلقات العمر الضعيفة، وكذلك مرحلة اليفاعة والشباب، وفي هذه المرحلة تزداد الوساوس القهرية لمن لديهم الاستعداد لذلك، وربما يكون لديك الاستعداد نسبةً لظروف التنشئة، كما أن الوساوس القهرية هي مكتسبة ومتعلمة، ولكن لابد أن يكون أيضاً حدث لك نوع من التغير البيولوجي والكيميائي، وهذا التغير يتعلق بما يعرف بالموصلات العصبية أو الناقلات العصبية، وهنالك عدة مواد كيميائية أهمها المادة التي تعرف باسم سيرتونين.
لا شك أن الوساوس تولد الإحباط وتولد الاكتئاب، وتجعل صاحبها يفقد الكثير من تفكيره الإيجابي، وينصب كل فكره نحو السلبية والتشاؤم، ويرى الماضي مظلماً، ويرى المستقبل مبهماً، ويرى الحاضر فاشلاً، هذا هو التصور الاكتئابي المرتبط بالوساوس القهرية.
لا شك أنكِ بعد الهجرة إلى فرنسا حصل لك متغير جديد لا نستطيع أن نتجاهله، حتى وإن كان أمنية من أمنياتك؛ لأن صاحب الوساوس القهرية دائماً صاحب قيم، ومعظم مرضى الوساوس يتمتعون بشخصيات مرهفة وقيم عالية واهتمام بالفضائل، بالتأكيد مثل هذا التكوين النفسي الداخلي يوقع الإنسان في كثير من التصادمات المتعلقة بقيمه، خاصة حين يجد المجتمع الذي يعيش فيه مجتمعا ذا أخلاق أو ذا مُثُلٍ مخالفة، هذا أيضاً أعتقد أنه قد زاد من الاكتئاب لديك، وجعلك تجدين صعوبة في تحديد هويتك ورسم مستقبلك.
أيتها الأخت الفاضلة: أرجو أن أؤكد لك تأكيداً قاطعاً أن الوساوس القهرية يمكن أن تعالج تماماً، وكذلك الشعور بالإحباط والاكتئاب المصاحب.
أنتِ -الحمد لله- لديك أشياء عظيمة وإيجابية في حياتك، فقد رزقك الله الزوج الصالح الذي يحفظ كتاب الله، هذا بالطبع أمر عظيم، وهذا مكسب كبير أرجو ألا تضيعيه، وأرجو أن تتفهميه بعمق وحقيقة؛ لأن الزوج الصالح يعتبر هو السند الرئيسي لزوجته، هذه إيجابية لابد أن تكون هي محور التفكير لديك، لأنها سوف تبعد هذه الأفكار الاكتئابية والسلبية لديك.
شيء آخر: أنتِ -الحمد لله- بلغت السن التي تؤهلك لمزيد من الاستقلالية وعدم الاعتمادية على الآخرين، هذا أيضاً شيء إيجابي، وحتى الفشل الدراسي أو الصعوبات الدراسية يمكن للإنسان أن يتداركها، ويمكن للإنسان بشيء من الشعور بالمسئولية والمثابرة يستطيع أن يحول الضعف الدراسي إلى إنجاز عظيم، وربما إلى تميز وتفوق إن شاء الله.
الذي أرجوه منكِ هو ألا تعيشي في الماضي بسلبية، فالماضي يعتبر تجربة، والتجارب يستفيد منها الإنسان حتى يطور تجاربه المستقبلية، هذا هو الذي أراه، وهذا هو الذي يتفق عليه معظم علماء النفس، الماضي تجربة وهذه التجربة للاستفادة، وليست للشعور بالإحباط والشعور بالذنب ومحاسبة النفس، لابد لك أن تنطلقي من هذا المنطلق، الماضي مفيد حتى لو كان سلبياً، والحاضر يجب أن تعيشيه بقوة وعمق، والمستقبل يجب أن تعيشيه بأمل، والأمل إن شاء الله موجود، وأمامك الكثير من أجل أن تنفذيه.
نسأل الله أن يرزقك الذرية الصالحة، وأن تكوني راعية في أسرتك، وأن تكوني زوجة صالحة، وأمّاً حنوناً عطوفاً تربي أبناءها على ضوء الشرع الإسلامي وتعاليمه؛ خاصة أنكِ تعيشين في مجتمع مثل فرنسا، وأنا مطمئن لأن المسلمين هنالك كثر والحمد لله، بالرغم مما يتعرضون له من مضايقات.
أيتها الأخت الفاضلة: إذن كل الذي يرجى منك هو التفكير الإيجابي والاستفادة من إمكاناتك، ومن الواضح – وأستطيع أن أقتبس ذلك من رسالتك – أنك لديك الكثير من المقدرات المعرفية الإيجابية، يمكنك أن تستغلي طاقاتك في العمل التطوعي، في رعاية الأخوات الآخريات من المسلمات في الحرص على الدروس، في متابعة حفظ القرآن؛ خاصة أن زوجك من الحفظة، الدراسة، العمل، أمامك أشياء كثيرة وعظيمة.
أما بالنسبة للوساوس القهرية، فالوساوس يمكن للإنسان أن يهزمها ويتخلص منها، كل فكرة وسواسية تأتيكِ أرجو منك أن تفكري في الفكرة المخالفة لها، وكل فعل وسواسي أرجو أن تقومي بتطبيق الفعل المخالف له.
وساوس النظافة .. لماذا توسوسين من النظافة؟! أرجو أن تضعي يدك في سلة الأوساخ، ضعيها الآن بالله عليكِ، ضعيها الآن لمدة خمسة دقائق، وحين تكون متسخة انظري إليها لمدة خمسة دقائق أخرى، ثم حددي كمية بسيطة من الماء في كوب واغسلي يديك بهذا الماء، لا تغسليها من الماسورة أو الحنفية، كرري مثل هذه التمارين، هذه التمارين ذات قيمة علمية فعّالة لمحاربة هذه الوساوس إن شاء الله.
والوساوس الفكرية أيضاً بنفس المستوى، الفكرة وما هو مضاد، لها حاولي أن تركزي على المضاد، أرجو أيضاً أن تخاطبي نفسك وأن تجري حواراً داخلياً، وتقولي أن هذه الأفكار سخيفة وحقيرة ولن تجد لتفكيري وسيلة أو طريقة حتى تسيطر عليَّ، أنا أقوى من ذلك، أنا أرفع من ذلك ... أرجو أن تخاطبي نفسك على هذا السياق.
بقي هنالك أيضاً العلاج الدوائي، توجد أدوية كثيرة جدّاً -الحمد لله- تعالج الاكتئاب، وفي نفس الوقت تعالج الوساوس القهرية، وتعالج أيضاً القلق والتوتر والمخاوف.
ربما يكون الدواء الأفضل بالنسبة لك هو العقار الذي يعرف باسم بروزاك، أرجو أن تبدئيه بجرعة كبسولة واحدة في اليوم وقوة الكبسولة هي 20 مليجرام، ويفضل تناوله بعد الأكل، استمري على هذه الجرعة لمدة شهر، ثم بعد ذلك ارفعي الجرعة إلى كبسولتين في اليوم، وبعد شهر آخر ارفعيها إلى ثلاثة كبسولات، هذه ليست جرعة كبيرة، هي جرعة طبية صحيحة لعلاج الوساوس المصحوبة بالاكتئاب، تناولي كبسولة في الصباح واثنتين في الليل، واستمري على هذه الجرعة لمدة ستة أشهر كاملة، بعدها أرجو أن تخفضي العلاج بمعدل كبسولة كل شهرين حتى تتوقفي عنه.
صدقيني فباتباع الإرشادات النفسية البسيطة، وبالثقة في نفسك وإمكاناتك، وتناول هذه الأدوية التي وصفتها لك، سوف تجدين إن شاء الله أن حياتك قد تبدلت وأصبحت أكثر إيجابية، وقد اختفت الوساوس وقد اختفى الاكتئاب، وأصبحت أكثر فاعلية وإيجابية ومنشرحة في نفسك وفي بالك إن شاء الله.
أسأل الله لك الشفاء، وأسأل الله لك الثبات، وبالله التوفيق.