الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى من أئمة أتباع التابعين، إمام بيروت وأهل الشَّام.
امتاز بفصاحة اللسان وبلاغة البيان ودقة الاستنباط والمثابرة في البحث عن العلم والعلماء والتلقي عنهم، جمع بين العلم والأدب، والعبادة والخشية، وعدم المداهنة للخلق، حديثه في الكتب الستة، وفي دواوين الإِسلام.
وقد عاصر الأوزاعي الإمامين أبا حنيفة ومالكا، وكانت له مدرسة فقهية في الشام وله مسلكه الخاص في الاستنباط، وقد ذاع مذهبه الفقهي في ديار الشام ودام العمل به زهاء قرنين وانتشر كذلك في شمال أفريقيا والأندلس قرابة نصف قرن، وتنوع علمه الغزير حيث تلقاه من مصادر متعددة شامية وعراقية وحجازية، وهذا ما أدى إلى تكوين شخصيته العلمية الفذة.
يقول النووي عن الأوزاعي: (كان إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا مخالفة).
اسمه ولقبه
هو الإمام الكبير "عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد الأوزاعي " المكني بـ "أبي عمرو".
أُطلق عليه اسم «الأوزاعي» نسبةً إلى «الأوزاع» وهي قبيلة يمنيَّة حميريَّة من بطن ذي الكلاع من قحطان. نزل أفرادٌ منها في دمشق قرب باب الفراديس، وقد أُطلق على المنطقة التي نزلوا فيها اسم قرية «الأوزاع».
نشأته
ولد ببعلبك بـ " لبنان" سنة "88 هـ" ونشأ بها يتيمًا في حجر أمه، قال ابن كثير: نشأ الأوزاعي بالبقاع يتيمًا في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجاروغيرهم أعقل منه، ولا أورع ولا أعلم، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتًا منه.
الكتابة والأدب
اشتهر أن الأوزاعي فقيه مجتهد، لكن هناك ناحية أدبية عنده، إذ يذكر مترجموه أنه كان بارعاً في الكتابة وأنها كانت صنعته، فرسائله تؤثر وينقلون أنه كان من ذلك موضع الإعجاب والإكبار، إذ يروون أن كتبه كانت ترد على المنصور فينظر فيها، ويتأملها، ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها؛ وكان مشاهير الكتاب يقتبسون من قوله، ويأخذون عنه، ويتهيبون الإجابة عن رسائله؛ إذ يقول المنصور يوماً لأحظى كتابه عنده، وهو سليمان بن مخلد: ينبغي أن تجيب الأوزاعي عن كتبه، فيقول: والله يا أمير المؤمنين لا يقدر أحد من أهل الأرض على ذلك وقال: لا على مثل كلامه ولا على شيء منه؛ وإنا لنستعين بكلامه نكاتب به إلى الآفاق، إلى من لا يعرف أنه كلام الأوزاعي.
يقول الذهبي في طبقات الحفاظ بعد أن روى عن أبي زرعة الدمشقي أن الأوزاعي كانت صنعته الكتابة والترسل فرسائله تؤثرقلت: "هذا نافلة سوى الفقه" أه.
لكن فقه الشيخ طغى على أدبه، وأخمل ذكره فيه.
تحوله من الكتابة إلى الحديث والفقه
خرج الأوزاعي يومًا إلى اليمامة مع أحد الجيوش كاتبًا، فتفرّس فيه العلم والنبوغ أحد أعلام تلك الفترة الزمنية وهو يحيي بن أبي كثير حينما حين رآه في مسجد باليمامة، وكان يحيي بن كثير قريبا منه فجعل ينظر صلاته فأعجبته، ثمّ جلس إليه وسأله عن بلده وغير ذلك فأعجبته شخصيته وعلمه، ونصحه بالبقاء لأخذ العلم، فترك ديوان الجند، وأقام الأوزاعي عنده مدّة يكتب عنه، حتى عدّ الأوزاعي من أروى الناس عن يحيى بن أبي كثير وأكثرهم أخذًا عنه، كما سمع من غيره من مشايخ أهل اليمامة.
ونظرا لرغبة يحيى بن أبي كثير في أن يزداد الأوزاعي علما نصحه أن يرحل إلى مواطن أخرى يأخذ العلم، وأرشده إلى الرحلة نحو البصرة ليسمع من الحسن البصري، ومحمد بن سيرين فسار إليهما ولكنه وجد الحسن قد مات منذ شهرين، وابن سيرين مريضا، فبقي يتردد عليه إلى أن مات ولم يسمع منه شيئا، غير أنه سمع من قتادة بن دعامة وغيره من علماء البصرة.
قام الأوزاعي منذ صباه بعدة رحلات زادت من علمه وحلمه وصبره، فسافر إلى اليمامة ثم البصرة، فالكوفة والعراق عامة ثمّ إلى الحجاز حيث الحج ومقابلة العلماء أمثال الثوري ومالك، وعاد إلى دمشق بعد هذه الجولة للدرس، فحدّث بها وصار يزار من قبل طلاب العلم.
ومن المعلوم أن رحلة العلماء في طلب العلم كان تهدف إلى تحقيق عدة أغراض أهمها طلب العلم، وتوثيق الحديث وتحصيله والتثبت منه وطلب العلو في السند والبحث عن أحوال الرواة ومذاكرة العلماء في نقد الحديث.
مذهب ا لأوزاعي:
كان الأوزاعي من كبار الأئمَّة المُدافعين عن الإسلام والسُنَّة النبويَّة، لا سيَّما في فترة تزايد البدع والجدل والانحراف عن القُرآن والسُنَّة، كما كان حريصًا على الجهاد والرباط والدفاع عن المظلومين وعن الحق، وكان استقراره في ثغر بيروت بدافع الرباط ورد الاعتداءات عن ديار الإسلام، وكانت الفترة التي قضاها في بيروت أكثر سني حياته المُنتجة والغزيرة، ففيها طوَّر مذهبه، وانتشر في كافَّة أنحاء الشَّام وانتقل إلى المغرب والأندلُس، لكن لم يُكتب لمذهبه البقاء، فاندثر بعد أن لم يهتم تلامذته بتدوينه والحفاظ عليه، فحل مكانه المذهب الحنفي والشافعي في الشَّام والمالكي في المغرب والأندلس
يقولُ القاضي عياض: "غَلَبَ مذهبُ الأوزاعي على الشامِ، وعلى جزيرةِ الأندلس أولًا، إلى أنْ غَلَبَ عليها مذهبُ مالكٍ بعد المائتين، فانقطعَ منها".
ويقول بن تيمية: "ما زالوا - أيْ: أهل الشام - على مذهبِه - أي: مذهب الأوزاعي - إلى المائةِ الرابعة، بلْ أهلُ المغربِ كانوا على مذهبِه قبلَ أنْ يدخلَ إليهم مذهبُ مالكٍ".
ويقولُ الحافظ الذهبي: "كان أهلُ الشامِ، ثمَّ أهلُ الأندلسِ على مذهب الأوزاعي مدةً مِن الدهرِ، ثمَّ فَنِيَ العارفون به، وبقي منه ما يُوجدُ في كتَبِ الخلافِ".
درر من أقوال الأوزاعي
- قَالَ الوَلِيْدُ بنُ مَزْيَدٍ: سَمِعْتُ الأَوْزَاعِيَّ يَقُوْلُ: كَانَ يُقَالُ: وَيْلٌ لِلْمُتَفَقِّهِيْنَ لِغَيْرِ العِبَادَةِ، وَالمُسْتَحِلِّينَ الحُرُمَاتِ بِالشُّبُهَاتِ.
- وعن الأوزاعي قال: إن المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً، وإن المنافق يقول كثيراً ويعمل قليلاً.
- وعن موسى بن أعين قال: قال لي الأوزاعي: يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك، فأما إذ صرنا يقتدى بنا ما أرى يسعنا إلا التبسم.
- وعن أبي حفص عمرو بن أبي سلمة عن الأوزاعي قال: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن علم أن منطقه من عمله قل كلامه.
- وعن الوليد بن مزيد قال: سمعت الأوزاعي يقول: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم باب الجدل، ومنعهم العمل، وكذلك العكس بالعكس، وإذا أراد بقوم خيراً فتح لهم باب العمل، وأغلق عنهم باب الجدل.
- وعن محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي يقول: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام. (أي: زلات العلماء، فمن اتبع زلة كل عالم اجتمع فيه الشر كله.)
- وعن مَرْوَانُ الطَّاطَرِيُّ عَنِ الإِمَامِ الأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ قَال: «مَن أَطَال قِيَامَ اللَّيْل؛ هَوَّنَ اللهُ عَلَيْهِ وُقُوفَ يَوْمِ الْقِيَامَة».
وفاته
توفي الأوزاعي في بيروت سنة 157 هـ، وكانت جنازته كبيرة، دُفن الأوزاعي في قرية «حنتوس» جنوب بيروت، ومع مُرور السنوات تغيَّر اسم القرية حتَّى أصبحت تُعرف بـ«الأوزاعي»، وشكَّلت جُزءا من بيروت الكُبرى مع مرور الزمن.
وتقديرًا لإنجازات الإمام الأوزاعي ورمزيته في بيروت، أُنشأت كُليَّة لِلدراسات الإسلاميَّة في المدينة سُميت باسمه( كُليَّة الإمام الأوزاعي لِلدراسات الإسلاميَّة)، وتبنَّت بلديَّة بيروت اقتراح المؤرخ الدكتور حسان حلاق بتسمية ساحة سوق الطويلة في وسط بيروت التجاري بساحة الإمام الأوزاعي.