الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رمضان عند السلف

رمضان عند السلف

 رمضان عند السلف

من نعم الله على عباده أن جعل لهم مواسم يفتح لهم فيها خزائن رحمته وبحار جوده التي لا تغيض، ينثر عليهم فيها من الفضل العميم والخير الجزيل ما لا يطاله حصر، ولا ريب أن سلف هذه الأمة الصالح كانوا أحظى الناس باستغلال هذه الأوقات الفضلى ذلكم الاستغلال الأمثل الذي يبلغ مداه مع مراعاته لجوانب الشرعية واتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وبعده عن المغالات والتنطع والابتداع، وسنحاول من خلال سطور هذا المقال تتبع الخطوط والملامح العامة لفصول ذلكم النهج السديد الذي سار عليه سلفنا الصالح في استغلال لحظات وأوقات هذا الشهر الفضيل وأولهم في ذلك مثلنا الأعلى إمامهم وإمامنا وإمام الأمة جمعاء رسول الرحمة المسداة صلوات ربي وسلامه عليه، على أنه لا بد من التنبيه إلى أن تتبع التفاصيل الدقيقة لملامح هذا النهج السديد متعذر وذلك لأمرين اثنين:

الأول: أن معظم أعيان السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يعتبرون هذا البرنامج عملا خاصا بينهم وبين ربهم وبالتالي فقد كانوا يجتهدون لإخفائه عن أعين الخلق طلبا للإخلاص؛ حتى كان محمد بن أسلم يقول: " لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفاً من الرياء "، ويقول الحسن البصري واصفا حال السلف: " إن كان الرجل جمع القرآن وما يشعر به الناس .. وإن كان الرجل قد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس .. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به .. ولقد أدركت أقواماً ما كانوا على عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً " .

الثاني: أن هذا البرنامج متفاوت، فأبواب الخير لا حصر لها وقد كان السلف رحمهم الله ذوو همم عالية يضربون في كل غنيمة بسهم، ولا يفوتهم باب من أبواب الخير، ولا مسلك من مسالك البر إلا وحازوا منه النصيب الأوفر .. وعموما فقد حفظ لنا التاريخ بعض النماذج البارزة التي تمثل الملامح العامة لمنهج السلف في استغلال هذه اللحظات الفاضلة؛ كما يتضح من الأمثلة التالية:

• كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتكف في كل عام في رمضان العشر الأخيرة منه ويعرض القرآن على جِبريل مرة واعتكف في عام الوداع الذي انتقل فيه للرفيق الأعلى عشرين يوما وعرض القرآن على جبريل مرتين.
• روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدَارسُه القرآن فلَرَسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

• روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر)، وفي رواية لمسلم: (كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها)..
• وعن تفصيل هذا القيام يروي ابن مسعود رضي اللَّه عنه كما في صحيح البخاري - أنه صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ليلة من ليالي العشر، فافتتح بسورة البقرة واستمر فيها حتى هَمَّ ابن مسعود أن يجلس ويدعه لإطالته فيها، وصلى ليلة أيضًا ومعه حذيفة، فقرأ سورة البقرة كلها، ثم سورة النساء، ثم سورة آل عمران، يقرأ مترسلاً .

• عن زر بن حبيش قال: سألت أُبي بن كعب رضي الله عنه، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال: رحمه الله! أراد أن لا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر.
• وقد سار سلف الأمة الصالح على هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا أقبل رمضان تركوا سائر الأعمال واعتكفوا على قراءة القرآن وتدبره:
ـ فقد كان الإمام مالك إذا أقبل عليه رمضان هجر جميع المجالس حتى مجالس الحديث؛ ليعكف على كتاب الله.
ـ وكان الإمام الشافعي عليه رحمة الله يختم القرآن في رمضان ستين ختمة لا يحسب منها ما يقرأ في الصلاة.
ـ وكان الإمام أحمد إذا أقبل رمضان جلس في بيت الله واعتكف على قراءة القرآن وترك فتاواه ومسائله ومجالس العلم ليعكف على كتاب الله.

• يقول الإمام الزهري: شهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام لا ثالث.
• وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث.
• وعن إبراهيم قال كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين وكان ينام بين المغرب والعشاء وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال .

• وقد كان الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين يطيلون قيام الليل في رمضان حتى يقترب الفجر، وما يكاد أحدهم ينتهي من السحور حتى يؤذَّن للفجر، فعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: سمعت أبي يقول: " كنا ننصرف في رمضان من القيام، فيستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر".
ورغم هذا الاهتمام الزائد بالعبادة في هذا الشهر الفضيل فإن السلف لم يكونوا فيه سلبيين أو منكفئين على ذواتهم ولا كانوا يقصرون في أداء واجباتهم الأخرى بل ربما كانوا أنشط فيه وأقوى على العمل منهم في غيره ولا أدل على ذلك من أن معظم المعارك والملاحم الفاصلة في التاريخ الإسلامي إنما كانت في شهر رمضان؛ فغزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها الإيمان وجنده وخذل الشرك وأهله وكانت يوما فاصلا من أيام التاريخ لم تكن إلا في رمضان، وفتح مكة الذي سمي الفتح الأكبر لم يحدث إلا في رمضان، ومعركة القادسية التي قادها سعد بن أبي وقاص واقتحم بجيشه لجة نهر الفرات وقد علا فيضانها وتلاطم موجها وهي ترمي بالزبد فهربت من أمامهم جيوش كسرى التي كانت تفوقهم عددا وعدة بأضعاف، هذه المعركة إنما كانت في رمضان سنة خمسة عشر للهجرة ... إلى غير ذلك من المعارك.

والخلاصة أن شهر رمضان لم يكن شهرا عاديا مثل بقية الشهور في اعتبارات السلف بل هو عندهم سياحة ربانية في محاريب العبادة وخصال البر يضعون لها برنامجا خاصا يتميز بالإكثار من أنواع العبادة بشكل عام؛ ويختص بميزات أربع:
الأولى: أنه كان شهرا قرآنيا بامتياز يخصصون جل أوقاته للسياحة في بحور القرآن فهما وتدبرا وقراءة وتعلما.
الثانية: أنهم كانوا يكثرون فيه من نوافل الصلاة وقيام الليل والاعتكاف ويتضاعف العمل والجهد مع تقدم أيام الشهر حيث يبلغ ذروته في العشر الأواخر وفي السبع الأواخر وفي الأيام الفردية من العشر الأواخر تحسبا لليلة القدر التي جعل الله ثواب العبادة فيها أفضل من ثواب العبادة لمدة 83 سنة وثلاثة أشهر.
الثالثة: الإنفاق والتصدق على المحتاجين وهو باب عظيم من الأبواب التي حرص السلف على الإكثار منها خصوصا في هذا الشهر المعظم .

الرابعة: باب الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، ورغم ما تحتاجه هذه الفريضة من مجهود بدني وعضلي شاق فقد بورك للأمة جهادها في أيام هذا الشهر وحققت فيه من النتائج والإنجازات ما لم تحققه في أي شهر آخر، والحق أن شعائر هذا الشهر كلها ترجع إلى مفهوم الجهاد ومغالبة شهوات النفس وكسر سلطان الهوى والانقياد والإذعان لمنهج الحق سبحانه وتعالى وتغليبه على كل الدوافع والدواعي والحظوظ الأخرى، نسأل الله بمنه وكرمه أن يعيننا على صيامه وقيامه وأداء حقه على الوجه الأتم والحال الأكمل وأن يتقبله منا إنه سميع مجيب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

ثقافة و فكر

كيف نقف خلف اللغة العربية؟!

إنَّ المتتبِّعَ لكلِّ من كتَبَ عن وقائعِ أمَّتنا في العصْرِ الحديث، يدركُ أنَّ الأمَّةَ العربيَّةَ لم تَعرِفْ...المزيد