التاريخ سجل الأمم، وخزائن الحكم، من غاص في أسراره أضاف أعماراً إلى عمره، ومن تصفح صحائف التاريخ وجد الإرث المتطاول، فانتفع مِن تجارب الأقدمين، واتعظ بمصائر الغابرين.
ألم يرشد القرآن إلى ضرورة التبصر من أحداث التاريخ والاستفادة من مصائر السالفين {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ}(سورة السجدة:26)؛ وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ}(غافر: 82).
الناس جميعاً لا غنى لهم عن دراسة التاريخ، والاطلاع على تجارب البشر منذ الأزل، فالبشرية سلسلة متصلة مترابطة، لا انفكاك بين ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، فهي تحمل نفس الجينات، وتسكن نفس الكوكب، ولله سنن ونواميس تُسير هذا الكوكب، وتهدي الإنسان لطرق العيش، ولله وحي من السماء يُبصر الإنسان بأهدافه، ويرسم له معالم لا ينبغي أن يحيد عنها.
وعن أهمية دراسة التاريخ يقول الإمام أحمد بن عبد الوهاب النويري(733هـ): "والتاريخ ممّا يحتاج إليه الملك والوزير، والقائد والأمير، والكاتب والمشير والغنىّ والفقير؛ والبادي والحاضر، والمقيم والمسافر، فالملك يعتبر بما مضى من الدّول ومن سلف من الأمم، والوزير يقتدى بأفعال من تقدّمه ممّن حاز فضيلتي السيف والقلم؛ وقائد الجيش يطّلع منه على مكايد الحرب، ومواقف الطعن والضرب؛ والمشير يتدبّر الرأيَ فلا يصدره إلّا عن روية ويتأمّل الأمر فكأنه أعطى درجة المعيّة وحاز فضيلة الألمعيّة؛ والكاتب يستشهد به في رسائله وكتبه، ويتوسّع به إذا ضاق عليه المجال في سربه، والغنىّ يحمد الله تعالى على ما أولاه من نعمه ورزقه من نواله، وينفق مما آتاه الله إذا علم أنه لابدّ من زواله وانتقاله؛ والفقير يرغب في الزهد لعلمه أن الدنيا لا تدوم، ولتيقّنه أن سعتها بضيقها لا تقوم، ومن عدا هؤلاء يسمعه على سبيل المسامرة، ووجه المحاضرة والمذاكرة؛ والرغبة في الاطلاع على أخبار الأمم، ومعرفة أيام العرب وحروب العجم".
إذن نحن أمام علم هو مفتاح الفُهُوم ورائد العلوم، ومعرفته تفتح الأفاق، وتنير البصائر، وترشد إلى الاتزان في المواقف، واتخاذ التدابير الحياتية المناسبة لكل موقف ونازلة، التاريخ يوفر دروساً قيمة لاتخاذ القرارات المستقبلية، التاريخ يساعد على فهم التنوع الثقافي، والديني و الاجتماعي، كما يعمل على تعزيز التسامح، والاحترام المتبادل بين الشعوب والثقافات.
وقد شاع عند الناس قولهم (التاريخ يعيد نفسه) وهذا الكلام صحيح المعنى؛ فالأحداث في دنيا البشر تتشابه، والإنسان هو الإنسان في طرق تفكيره، وحرصه على التملك، ونزغه، ونزوعه للتفرد، وميله للاستئثار بالأرض، والاستعلاء على بني جنسه، والصراع أزليٌ في البشر بين طائفة انحازت للخير، وسعت لإعمار الأرض بالاستخلاف فيها، وهي طائفة تسعى للوئام ، ونشر قيم الفضيلة بين بني البشر، وتقابل هذه الطائفة طائفة أخرى تعيش على المؤامرات والمكايد، وإفساد طبائع البشر بنشر الرذائل ورعاية المفسدين، وبذر بذور الشقاق، والعداوات.
هذا الأمر الجِبِلي الموجود في الإنسان يُلزمنا بقراءة التاريخ، لنعرف كيف واجه الخيرُ الشرَ وكيف انتصرت قيم الفضيلة، وثبتت في الأرض رغم المؤامرات والدسائس.
ثم إن دراسة تاريخ فوق أنها تفيد بما سبق وأكثر؛ هي دراسة ماتعة لأنك تطلع على أحوال الممالك، وعادات الأمم، وطرق عيش الناس، وتتعرف على أسباب النزاعات، ومجالس المفاوضات، وعاقبة المؤامرات، ومصير الخونة والمفسدين، ومصارع الجبارين والمعتدين.
كما أن أهمية التاريخ أيضا تكمن في بناء الهوية الوطنية والثقافية لدى أي فرد أو مجتمع، من خلال معرفة كيف تطورت القيم والعادات على مر العصور، كما يمكننا من الحفاظ على تراثنا، والمضي قدماً في تطويره و الاعتزاز بأصوله.
وأهم من كل ما مضى أن قراءة التاريخ تجعلك تصل لقناعة هي أم القناعات وأسها؛ وهي أن العاقبة للمتقين، وأن الحق باق حتى وإن زالت دولته زوالاً مؤقتاً، وبذلك تطمئن نفسك، وتعلم الحقيقة التي لا مراء فيها وهي أن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.