نلاحظ في أيامنا هذه أيام السرعة، ومحاولة جني الثمار بدون كبيرعناء، أن كثيراً من القراء أصبح في قراءته للكتب يتجاوز المقدمة إلى صلب موضوع الكتاب، وهذا يفوت على القارئ فوائد جمة، وملح ملهمة، ويضيع أيضاً وقت القارئ، لأنك إن تأملت المقدمة، ودققت فيها كان موقفك من الكتاب أسلم، ودخولك في عالمه أكثر انسجاماً وألطف لنفسك وأوفق لعقلك.
ويظن بعض القراء أن المقدمة مجرد توطئة روتينية للكتاب، لكن الحقيقة أن بعض مقدمات الكتب تحتوي على رموز يفك بها أسرار الكتاب، وبعضها تحتوي على بيان أهمية المسألة التي تحدث عنها المؤلف، أو سبب تأليف الكتاب.... إلخ من مقاصد المؤلفين في مقدماتهم، وبعض مقدمات الكتب توضح تفاصيل الكتاب وتبين مراجعه، وهي بوابة الكتاب ومفتاحه.
وقديماً قليل: "في الزوايا خبايا"، وهذا أصدق ما يكون وأجلى ما يبدو في مقدمات الكتب، ففي كثير من هذه المقدمات تجد كنوزاً مخبوءة، وفوائد مكنونة، قد لا توجد في الكتاب نفسه، ذلك لأن هذه المقدمات عادة ما تكون عصارة فكر المؤلف، وخلاصة ما صل إليه.
والمقدمة أشبه ما تكون بالدليل -الكتالوج- المرافق للجهاز الإلكتروني الذي تشتريه، فأنت لست في غنىً عن قراءة ذلك الدليل والاطلاع على ما فيه من تنبيهات، وطرق لتشغيل والاستفادة من الجهاز.
وكثير من مقدمات الكتب يضمن لك تلخيص مضمون الكتاب، أو طرح إشكالية تحفز ذهنك، وتثير عقلك، أو يقدّم فرضيات لموضوعات تدفعك لتخمين أفكار جديدة لم تكن عندك.
ومن فوائد المقدمة أنّها تعطيك تصوراً لمضمون الكتاب فهي أوّل ما يوضع في الكتاب وآخر ما يكتب لأنّ الكاتب يجمع فيها ما قدّمه في كتابه ولهذا يختصر عليك قراءة الكتاب، فإمّا أن تستمر فيه، أو تتركه انطلاقا ممّا مهّد له في مقدمته، وقد يبرع بعض المؤلفين في مقدمات كتبهم، وحين تلج في الكتاب تجده دون المقدمة بكثير، لكن الأصل أن المقدمة توافق ما في الكتاب.
مقدمة الكتاب هي طريقة المؤلف لجذب الاهتمام للكتاب بطريقة ذكية لتلخيص الكتاب، من دون إعطاء كافة المعلومات، ولكن بما يكفي لترك انطباع جيد عن الكتاب، وجرت العادة أن الكاتب الجيد هو الذي يبتدئ بنبذة مختصرة عما يحتويه الكتاب من مواضيع تُسَهِّل على القارئ وتضعه أمام الهدف من الكتاب.
والمؤلفون متفاوتون في صياغة مقدمات كتبهم، فابن القيم مثلاً أعطاه الله ملكة فوق الخيال في صياغة مقدمات كتبه، لذلك تجد له مقدمات ماتعة غنية بالمعلومات، تمثل رفداً معرفياً وافراً يتزود منه القارئ بعلم ثمين، ويجد القارئ في مقدمات كتبه نكت علمية، وتنبيهات تنويرية، تسري في القلوب وتخلب العقول.
وهناك مقدمات غاية في الانضباط، جامعة لفوائد قلّ أن توجد في غيرها، كمقدمة الإمام التهاوندي لكتابه: "إعلاء السنن" هذه المقدمة غاية في التحقيق العلمي الرصين، وهي تعطيك زبدة علم مصلح الحديث في ورقات معدودة، ولنفاستها أفردها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بطبعة مستقلة.
يجد القارئ في بعض مقدمات الكتب؛ ما يبعث في النفوس الطرب، ويشحذ الهمم، مثال ذلك مقدمة أبي نعيم الأصبهاني في كتابه: " دلائل النبوة" إنها مقدمة تكتب بماء الذهب، تعيد قراءتها مرة بعد مرة، فتعجب من سبك الجُمَل، وحلاوة العبارة، وفخامة التعبير، فتبارك الرحمن الذي علم بالقلم.
سمات مقدمات الكتب قديما
ويُلاحظ في مقدمات الكتب القديمة أنها تشترك في سمات عامة، يمكن اختصارها في التالي:
- بيان سبب تأليف الكتاب والداعي إليه.
- شرط المؤلف الذي ألتزم به في الكتاب؛ يُقعد المؤلف لذلك قاعدة يسر عليها.
- المنهج المتبع في ترتيب مادة الكتاب.
- تبيين الرموز والاختصارات التي ستكون في الكتاب.
- التنصيص على ذكر مصادر الكتاب، ومن أين استقى مادته.
سمات مقدمات الكتب حديثا
أما في عصرنا الحالي فبعد تطور علم مناهج البحث أصبحت مقدمات الكتب في غاية من الأهمية لأنها أضحت تختزل ما في الكتب من معارف، وترشد إلى مسالك عملية، ومصادر علمية؛ منها تستقى مادة الكتاب، وتُعِّرف القارئ بمبادئ الفن الذي ألف فيه الكتاب، وتهيئه للاستفادة القصوى من المُؤَلَّف، وبالتالي امتازت مقدمات الكتب الحديثة بميزات منها:
- المقدمة قد يكتبها شخص آخر غير المُؤَلف فيُوضح فيها مزايا الكتاب، وما امتاز به.
- التمهيد يتحدث فيه المُؤَلِف عن محتويات الكتاب وموضوعاته، والطريقة المتبعة في تأليف الكتاب.
- كذلك عادة ما يُبين المُؤَلِف في المقدمة الأسباب التي قادته لتأليف الكتاب، وجهوده في جمع مادة الكتاب، والمشاكل التي واجهته حين إعداد مادة الكتاب.
لكل ما سبق علينا أن نولي مقدمات الكتب عناية فائقة، وأن لا نتخطاها بدعوى الاستعجال إلى لُبِّ الكتاب حتى لا تفوتنا الفوائد العلمية، والملح الفكرية، خاصة أننا نعلم أن المقدمة عادة ما تكون بعد استيفاء مادة الكتاب العلمية عند المُؤَلِّف، وتكون بعد نضج الفكرة واتضاح الرؤية.