{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب}
بهاتين الآيتين ختم الله تبارك وتعالى سورة الشرح.. وسورة الشرح ـ كما يقول صاحب التحرير والتنوير: "احتوت على ذكرِ عنايةِ الله تعالى برسوله بلطف الله له، وإزالةِ الغمّ والحرجِ عنه، وتيسير ما عسر عليه، وتشريفِ قدره؛ لِيُنَفِّسَ عنه؛ فمضمونُها شبيهٌ بأنه حجةٌ على مضمون سورة الضحى؛ تثبيتاً له بتذكيره سالف عنايته به، وإنارة سبيل الحق، وترفيع الدرجة؛ ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان لِيقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم".
ولكن ما المقصود بالنصب؟ وما هو الشيء الذي يتفرغ منه؟ وكيف يرغب إلى الله تعالى؟ وما الذي يمكن أن يستفيده المسلم من هذا الأمر، خصوصا ونحن مطالبون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أمر له هو أمر لأمته ما لم يأت مخصص يخصصه برسول الله؟
لقد اختلف العلماء في هذا المعنى وذهبوا فيه مذاهب.. غير أنه لابد لمعرفة مقصود آخر السورة من معرفة معاني أوائلها. حيث يمتن الله تعالى في أوائل السورة على نبيه بأن شرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.. لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره.. أي شرحنا لك صدرك.
ومعنى الشرح الفسح والتوسعة، وإنما خص الصدر بذلك؛ لأنه محل العلوم والإدراكات، ومحل التفكر، ومحل التعقل، ومحل القناعات، هو محل للفهم، ومحل لاستقرار المعلومات، كل ذلك يكون في الصدر، ويكون في القلب.
وإذا ضاق الصدر ضاق الفضاء مهما اتسع، وضاقت النفس، وقل الفهم والإدراك، وقل الصبر على التحمل، والنبي صلى الله عليه وسلم في أشد الحاجة إليه لتحمل أعباء الرسالة وما يواكبها من مشاكسات ومضايقات الأعداء، وما سيواجهونه به من الأذى والافتراء والتكذيب..
لذلك يقول ابن جرير - رحمه الله: "شرح صدره بأن جعله محلا للوحي، جعله متحملاً لأعباء الرسالة، لأعباء الدعوة، وما تتطلبه من جهود، وأعمال، ومشقات، وما يلاقيه القائم بها، المتوظف بوظيفتها من الأذى، فإنه لن يسلم بحال من الأحوال من المناوئين، من الأعداء، من الخصوم الذين لا يقر لهم قرار، ولا يهنأ لهم بال إذا ظهرت الأنوار، أنوار النبوة، والرسالة".
فلابد إذا من شرح الصدر لئلا يضيق ذرعاً، لئلا ينقطع، لئلا يتوقف، لئلا يتراجع، لئلا يتزعزع، بل يثبت، ويرسخ في هذا الطريق قدمه حتى يكون أثبت من الجبال الراسيات.
هذا بالإضافة إلى الشرح الحسي حينما شُق صدره، وأُخرج منه ما أُخرج من علقة تتصل بحظ الشيطان منه - عليه الصلاة والسلام - فصار الصدر محلا قابلاً لهذه الأنوار، والوحي، والهدايات، والتنزيل برفع ودفع وإزالة ما يضاده من الأمور الحسية والمعنوية.
ومع شرح الصدر كان أيضا وضع الوزر بمغفرة الذنب، ما تقدم منه وما تأخر، فإن للذنوب ثقلا على النفس والقلب والبدن، وهذا الثقل للذنوب يمنع من العبادات، ويثقل عن الطاعات، ويوهن القلب والبدن عن المسارعة للخيرات، فيُمنع القلب عندها من الانطلاق، والسير إلى الله تبارك وتعالى فيبقى معطلاً، مشغولاً بالخبائث، مشغولاً بالمعاصي التي ترهقه، وتثقله، وتقعده عن سيره، وسفره إلى ربه، وإلى الدار الآخرة.
ومن ثم كان تطهير القلب من ذلك من النعم ولهذا امتن الله به على نبيه، {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما}(الفتح:1، 2)، {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك}.
فشرح الله له صدره، وطهر له قلبه، وغفر له ذنبه، ورفع له ذكره.. كل ذلك توطأة لما سيأتي من الأمر في نهاية السورة {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب}.. أي شكرا لله على ما أنعم به عليك، وتفضل بكل ما سبق.
الفراغ والنصب
وقد اختلف العلماء في المفروغ منه والمنصوب فيه، فقال بعضهم: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.. وقال بعضهم: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء.. وقال آخرون: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك.. وقال قوم: إذا فرغت من أمر دنياك، فانصب في عمل آخرتك.
وربما يكون المقصود كل هذا وغيره، فإن الآية أطلقت ولم تحدد، أي إذا فرغت من أمر كنت تعمله فانتقل إلى عمل آخر مما يعود عليك بالنفع في أمر دنياك وآخرتك، والمقصود أن يكون مشتغلاً بطاعة الله مبلغاً للرسالة، ينتقل من عبادة إلى عبادة، من طاعة إلى طاعة، من عمل صالح إلى عمل صالح، بلا توقف، بلا انتظار، فالمسلم طالما في الحياة فعليه أن يجد ويعمل دائما في شيء يعود عليك نفعه في الدنيا والدين، ولا يبقى فارغا أبدا. فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل..
قاعدة تربوية:
وهذه قاعدة من قواعد تربية النفس، وتوجيه علاقتها مع الله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:7، 8].
وإذا كان المسلم مطالبا بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخاطبا بما يخاطب به، فهو أيضا مطالب في حال الفراغ بالنصب.. أي إذا انتهى من طاعة أو عملٍ ما أن ينصب ويبدأ في عمل أو طاعة أخرى، وأن يرغب إلى ربه في الدعاء والعبادة، والتضرع والتبتل، لأن حياة المسلم الحق كلها لله، فليس فيها مجال لسفاسف الأمور.
بل إن اللهو الذي تبيحه الشريعة لأصناف من الناس، أو في بعض الأوقات كالأعياد والأفراح؛ من أعظم مقاصده أن يستجم الإنسان ـ والاستجمام للجد مرة ثانيةً من الشغل النافع ـ وأن يعيش العبودية لله في جميع أحواله، فهو يعيشها في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي الحضر والسفر، وفي الضحك والبكاء، ليتمثل حقاً قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
لا للفراغ
إن الإسلام يكره من أبنائه أن يكونوا فارغين من أي عمل ديني أو دنيوي! وبهذا نطقت الآثار عن السلف الصالح رحمهم الله:
جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إني أكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً لا في عمل دنيا، ولا دين".
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إني لأمقت أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا آخرة".
وسبب مقت ابن مسعود رضي الله عنه لهذا النوع من الناس؛ أن "قعود الرجل فارغاً من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعينه في دينه أو دنياه من سفه الرأي، وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة".
ولقد دلّ القرآن على أن هذا النوع من الناس الفارغين ـ وإن شئت فسمهم البطالين ـ ليسوا أهلاً لطاعة أو أمر مهم، بل تنبغي مجانبتهم؛ لئلا يُعدوا بطبعهم الرديء، كما قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28].
الجدية وسرعة الإنجاز
ومن هدايات هذه الآية: أنها أبلغ وأعظم حادٍ إلى العمل، والجد في استثمار الزمن قبل الندم. وأنها تربي في المؤمن سرعة إنجاز الأمور وعدم التسويف، فإن التسويف في كل أمر شين وسبة وسوء مغبة، ومن عجز عن امتلاك يومه فهو عن امتلاك غده أعجز!
وقد نهانا الله عنه بقوله: {سابقوا} {وسارعوا}، وكذا النبي بقوله: (اغتنم خمسا قبل خمس)، (وبادروا بالأعمال سبعا)...
وقد عقَد الخطيب البغدادي بابًا في كتابه "اقتضاء العلمِ العملَ: "باب ذم التسويف"، وقد جاء فيه:
عن الحسن البصري رحمه الله: "إيَّاك والتسويف؛ فإنَّك بيومك ولست بغَدِك، فإنْ يكنْ لك غد، فكُنْ في غَدٍ كما كُنتَ في اليوم، وإنْ لم يكن لك غدٌ لم تندمْ على ما فرَّطت في اليوم".
وعن قتادة بن أبي الجلد قال: قرَأتُ في بعض الكتب: إنَّ (سوف) جُندٌ من جُندِ إبليس.
وروى ابن أبي الدنيا عن عُقْبَةُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، إِيَّاكُمْ وَالتَّسْوِيفَ.. سَوْفَ أَفْعَلُ، سَوْفَ أَفْعَلُ".
ولا ترج فعل الصالحات إلى غد .. .. لعل غذا يأتي وأنت فقيد
ونختم بوصية يوسف بن أسباط لأخيه: "أي أخي، إياك وتأميرَ التسويف على نفسك، وتمكينَه من قلبك؛ فإنه محلُّ الكلال، ومَوئِل التلف، وبه تُقطَع الآمال، وفيه تنقَطِع الآجال.. وبادِرْ يا أخي فإنَّك مُبادَرٌ بك، وأسرع فإنَّك مسروعٌ بك، وجِدَّ فإنَّ الأمرَ جدٌّ".
إلى كم تجعل التسويف دأباً .. .. أما يكفيك إنذار المشيب؟
أمــا يكفــيك أنّك كلّ حـين .. .. تمرّ بقـبر خـلٍّ أو قريب؟
كأنّك قــد لحقت بهـم قريباً .. .. ولا يُغنيك إفراط النحيب