استهدف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بناء أُمّة واحدة فيما استهدفه أثناء حياته، وبالفعل استطاع أن يبدأ تكوين هذه الأُمّة في مكّة، ثم أكمل صياغتها في المدينة، ووصفها القرآن الكريم بأنها أُمّة واحدة في آيتين، هما: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء، 92)، ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون، 52).
وقد تحقّقت هذه الوحدة على مدار التاريخ، وكانت هذه الوحدة من أهم عوامل وجود هذه الأُمّة وتحقيق قوّتها، وتأكيد استمرارية وجودها مع كل الضغوط التي تعرّضت لها من فِرَق معادية: كالشعوبية، والزنادقة، والسمنية والباطنية الخ... فما العوامل التي قامت عليها هذه الوحدة؟ أبرز هذه العوامل هي الوحدة الثقافية التي جاءت من القرآن الكريم والسنّة المشرّفة اللذين صاغا أفكار الأُمّة، وبلورا وجدانها، وحدّدا قيمها، وقعّدا عاداتها وتقاليدها، ورسما آمالها، وبنيا نفسيّتها وعقليّتها، ووجّها جهودها إلى إعمار الدنيا والفوز بالآخرة، وأشادا أشواقها وتطلّعاتها، وجعلا اللغة العربية لغة لها إلخ...
وبقيت هذه الوحدة الثقافية هي العامل الرئيسي في وجود هذه الأُمّة مع أنه قامت دول متعدّدة وتقسيمات سياسية مختلفة على مدار التاريخ الماضي بعد دولة الخلفاء الراشدين، من مثل دولة البهويين، والسلاجقة، والأخشيديين، والطولونيين والطاهريين، والأدارسة، والموحّدين، والمرابطين إلخ... لكنّ تلك التقسيمات السياسية لم تفصل بين أفراد الأُمّة ولا جماهيرها، ولم تكن نهائية، لأنها لم تترافق مع أيّ طرح ثقافي تجزيئي، بل بقيت الثقافة الواحدة هي المتداولة لدى كل أطراف التقسيمات السياسية، وكان العلماء الفقهاء هم الذين يقدّمون هذه المادة الثقافية، ويرعونها، ويطوّرونها حسب مقتضيات الحاجات في واقع الحياة.
وبعد أن استعمر الغرب بلادنا أدرك أنّ وحدة الأُمّة الثقافية والسياسية أكبر قوة لها، فعمد إلى إضعافهما من خلال عمليتين: الأولى: التفتيت الثقافي، والثانية: التجزيء السياسي.
وقد استهدف التفتيت الثقافي عوامل الوحدة الثقافية من مثل اللغة العربية والقرآن الكريم والسنّة المشرّفة والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والقِيَم السلوكية إلخ...، فحطّوا من شأن اللغة العربية، واتهموها بأنها لغة صعبة ومعقّدة، فإملاؤها صعب ونحوها أصعب ويحتاجان إلى تغيير، كما اتهموها بأنها لغة غير علمية، لذلك دعوا إلى الكتابة بالعامية حيناً، وإلى الكتابة بالحرف اللاتيني حيناً آخر كما فعلت تركيا الحديثة، وبادر بعضهم إلى ذلك فأصدر سعيد عقل ديوان شعر سمّاه "يارا" وكتب قصائده بالحرف اللاتيني، كما دعوا إلى تطوير النحو والإملاء، وكان أبرز الداعين إلى ذلك طه حسين فدعا إلى كتابة "طه" بهذه الصورة "طاها" إلخ...
وشكّكوا بإلهية القرآن الكريم، وقالوا بأنّ القرآن انعكاس للبيئة الجاهلية في عقل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتب عن ذلك طه حسين في كتاب "في الشعر الجاهلي"، كما تحدّث المستشرق جب عن تلك القضية في كتاب "المذهب المحمّدي"، كما شكّك كثيرون بالسنّة النبوية واعتبروها وُضعت من أجل تدعيم الفِرَق السياسية التي قامت في الساحة الإسلامية من سنّة وشيعة وخوارج إلخ...، كما شكّك كثيرون بالقيمة الحقيقية للتاريخ الإسلامي واعتبروه تاريخ دماء وحروب وسلب ونهب إلخ...، كما شكّك آخرون بالحضارة الإسلامية واعتبروها حضارة نقل عن الحضارات السابقة اليونانية والرومانية والهندية، ومن أبرزهم الفيلسوف الفرنسي رينان، فقد نقلت الحضارة الإسلامية العلوم والفلسفة عن اليونانية، ونقلت التشريع عن الحضارة الرومانية، ونقلت مراسم الحكم والآداب من الفارسية والهندية إلخ...، كما شكّك بعضهم في قضية الحكم، واعتبروا أنه ليس هناك حكم في الإسلام، وأنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بدعوة دينية فقط ولم يأت بحُكم، وقد دعا إلى ذلك عدد من المفكّرين أبرزهم علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم".
أمّا على مستوى التجزيء السياسي فقد عمدت الدول الاستعمارية في مطلع القرن العشرين إلى ضرب العِرق العربي بالعِرق التركي اللذين كانا يشكّلان عماد الخلافة الإسلامية آنذاك، ثم قامت بتجزيء بلاد الشام إلى عدّة دول وهي: سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، بناء على اتفاقية سايكس-بيكو التي وقّعها وزيرا خارجية إنجلترا وفرنسا لتقاسم المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، ثم جزّأت فرنسا سوريا إلى أربع دويلات هي: دولة العلويين، دولة الدروز، دولة حلب، دولة دمشق.
ومن أخطر الأمور التي يمكن أن تحدث على مستوى التجزيء السياسي هو تحوّل الدولة القـُطرية إلى أُمّة، وتصبح الحدود القطرية حدوداً نهائية، وبذلك تصبح الأُمّة العربية الإسلامية أُمماً: فهناك أُمّة أردنية، وهناك أُمّة سورية، وهناك أُمّة مصرية، وهناك أُمّة تونسية إلخ... وتبذل الجهود بشكل حثيث من أجل تحقيق هذا الهدف، ويتم ذلك من خلال التأسيس الثقافي لهذه القطرية، واعتبار الهوية الوطنية هوية نهائية، ويختلف نجاح هذا التأسيس من بلد إلى آخر.
ويمكن أن نأخذ مصر كمثال على السعي في تحويل القطر إلى أُمّة مصرية، فقد اشتغل الغرب عليها منذ حملة نابليون عام 1799، وركّز على ربطها بالتاريخ الفرعوني، ثم جاء الاستعمار الإنجليزي وعمّق الاتجاه الفرعوني. وقامت نخبة مصرية في مطلع القرن العشرين من أمثال طه حسين ومحمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد وأحمد لطفي السيد وسلاّمة موسى ولويس عوض إلخ... تقول: إنّ الشعب المصري أُمّة فرعونية لا علاقة له بالأُمّة العربية الإسلامية، ودعت أحزاب إلى ذلك أبرزها حزبا الوفد والأحرار الدستوريان، اللذان حكما مصر بعد الحرب العالمية الأولى.
أمّا في مجال التجزيء السياسي فقد تسرّبت عدّة وثائق من الدوائر الإسرائيلية، أهمّها: الوثيقة التي نشرها الصحفي الهندي كارانجيا، ونشرتها الصحف المصرية عام 1957 حول خطط إسرائيل في تقسيم المنطقة وإنشاء دولة للدروز في جبل العرب، ودولة للعلويين في جبل العلويين، ودولة للمسيحيين في لبنان... إلخ، ومن أهمّها أيضاً: الوثيقة التي نشرتها المجلة الإسرائيلية (kivunim) ومعناها في العربية (اتجاهات) في فبراير/ شباط 1982، وبيّنت الوثيقة أنّ الدوائر الإسرائيلية الصهيونية أعدّت خطة لتجزيء مصر إلى دولتين: إحداهما قبطية في الجنوب والأخرى سنّية في الشمال، وأعدّت خطة ثانية لتجزيء العراق وبلاد الشام، وأعدّت خطة ثالثة لتجزيء المغرب العربي، والرابعة لتجزيء الخليج العربي.
ومما يؤكّد ما ورد في الوثيقة السابقة دفع المحافظين الجدد -وهم لوبي صهيوني- أميركا إلى غزو العراق وتفتيته ثقافياً وتجزيئه سياسياً، وكذلك الاضطرابات والانقسامات في الجزائر وموريتانيا والصومال وجيبوتي والسودان... إلخ.
ومن الواضح أنّ ما نراه على أرض الواقع -الآن- من اضطرابات وانقسامات في السودان والعراق واليمن والصومال والجزائر وجيبوتي... إلخ يؤكّد ما ذهبت إليه المجلة.
وليس من شك بأنّ نشر إحدى الدول لمذهب معين في بلاد أهل السنة يخالف المذهب السني ويكفر أهله سيؤدّي إلى تصدّع كبير في الكيان الثقافي للأُمّة، وستؤدّي نتائجه إلى تفتيت ثقافي وتجزيء سياسي كما يحصل الآن في العراق الذي تشير التوقّعات إلى احتمالات انقسامه إلى ثلاث كتل: سنّية في الوسط، وشيعية في الجنوب، وكردية في الشمال، وسيكون هذا في خدمة توجّهات الغرب وإسرائيل وتخطيطاتهم.
الخلاصة: إنّ أكبر خطرين واجها الأُمّة خلال القرن الماضي ومازالا يواجهانها هما: التفتيت الثقافي والتجزيء السياسي، وعلى القيادات الفاعلة في الأُمّة مواجهة هذين الخطرين، ويكون ذلك بالحرص على الثوابت التي تقوم عليها وحدة الأُمّة الثقافية من جهة، وعلى تلاحم القيادات السياسية في مواجهة الخطر الصهيوني والأميركي مع إعطاء كل فريق حقّه في المحافظة على كيانه الثقافي من جهة ثانية.