هي بالفعل كانت رحلة حياة؛ فقد غيَّرت فيَّ الكثير، وغيَّرت نظرتي للحياة، فدعوني أسرد لكم ما حدث لنا، وما لقيناه في هذه الرحلة، اقرؤوا بقلوبكم؛ عسى أن تُغيِّر تجربتي جانبًا مِن نظرتكم إلى الحياة أنتم أيضًا.
وصلنا إلى مطار لانجو، وهو مطار صغير، ولفت نظرَنا أن العاملين داخل المطار -لحِرصهم على العمل والوقت- كانوا يتحركون بالدراجات، ركبنا "أتوبيسًا" إلى جامعة لانجو ووصلنا في ساعة تقريبًا، وكانت الطريق صعبة؛ لكثرة المنحنيات وسط الجبال، ولكنَّنا وصلنا بفضل الله، وقد واجهتْنا مشكلة في أول الرحلة، وهي صعوبة التواصل مع الصينيِّين؛ حيث إنّ قليلاً منهم مَن يتحدَّث الإنجليزية، ولا بد أن تصطحب معك مترجمًا، المهمُّ، ذهبنا إلى الفندق، وتمَّ لقاؤنا مع مضيفنا وكانت مُقابلة طيبة؛ تحدَّثنا عن وضع الجاليات الصينيَّة، وعرَّفناه بأنشطتنا في مصر كجمعية تعمل في المجال الدعوي، ثم اتَّفقْنا على اللقاء في الغد؛ لعمل جولة في جامعة ومساجد لانجو.
اليوم الثاني، قمنا بجولة في الجامعة وهي عبارة عن مبنى مكوَّن مِن عِدَّة أدوار، ومنظَّمة جدًّا -كما توقعنا- ووجدنا بها كل ما يتمنى ويحلم به الدارس مِن كتُب ووسائل تُساعده على التحصيل العِلمي، ثم قمنا بزيارة الأماكن التي يُذاكر فيها الطلاب، وهي كبيرة جدًّا، ولكن -سبحان الله- قيل لنا: إنه لا يوجد بها مكان من كثرة عدد الطلبة، فالكل يذاكر بجد وإخلاص، وهنا استوقفَنا الأمر؛ فإن هذا هو في الحقيقة سرُّ التقدُّم، ليس في الصين وحدها، بل إن كل حضارة على مرِّ التاريخ كان سِرُّ تقدُّمها العلمَ والتعلم والتطلع للأفضل، وأعتقد أن هذا ما يَحثُّنا عليه الإسلام؛ فقد كرَّم الله طالب العلم بتكريمات عِدَّة في القرآن والسنَّة، منها أن: "مَن سلك طريقًا للعلم، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة"، و"إن الملائكة لَتضَعُ أجنحتها لطالب العلم؛ رضًا بما يصنع"، و"إنَّ معلم الناس الخير، لَيَستغفرُ له من في السموات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في الماء،وحتى النملة في جُحرِها"، وهذا شرف للعلماء عظيم، ويكفي أن الله عز وجل قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ثم زرنا المدينة الجامعية للطلبة الوافدين، وهي على مستوى لائق بالطلبة، وبها جميع جنسيات العالم، ثم قمنا بجولة بين مساجد لانجو، كانت حقًّا جولة رائعة لم أكنْ أحلم أن أرى تلك المساجد في الصين بهذا الحجْم، مع العلم أن هذه المساجد تُبنى على نفقة الصينيِّين.
حقًّا لا أجد كلامًا أعبر به، كان قلبي يدقُّ فرحًا في كل مرة أرى مسجدًا هناك، فكل المساجد بها أباريق وصنابير للاستحمام، ونظيفة للغاية، وكل المساجد بها فصول لتعليم اللغة العربية وغيرها مِن الدروس، بعضها على الطراز المِعماري الصيني القديم، وبعضها على الطراز الحديث، وهنا توقفتُ متأمِّلاً؛ لأنني تذكرت المساجد في العصور الذهبية للمسلمين، وكيف كان بها كل تلك المميزات وأكثر، لن تكون لنا حضارة إن لم نهتمَّ بإسلامنا وبثقافته، وبأن نعلم أن المساجد أخرجَت رجالاً عملوا لهذا الدين حتى الممات، فإذا نظرنا إلى التاريخ سنجد أن المساجد لم تكن دورًا للعبادة فقط، بل في العصر الذهبي للإسلام كانت بها مكتبات للاطلاع، ومستشفيات، وحدائق، وكانت عندما تَنظر إليها تعتقد أنك ترى قصورًا رائعة، ولم يكن ذلك الرقيُّ جديدًا على المساجد قديمًا؛ لذلك أخرجت علماء.
كانت جولة رائعة حقًّا، ثم صعدنا فوق جبل وألقينا نظرة على لانجو مِن أعلى نقطة في لانجو، فكان منظرًا جميلاً، وكانت خاتمة زيارات هذا اليوم زيارة أخرى أكثر مِن رائعة لمسجد الكوثر، بمجرَّد دخولنا وجدْنا الطلاب في انتظارنا في صفوف جميلة، سلمتُ على كل واحد منهم، وطُلب منِّي أن أُلقي كلمة لتشجيعهم، ففتَح الله عليَّ ببضع كلمات، ثم أخذتُ صورة تذكارية معهم، والحق يقال: إنهم مَن شجَّعوني، وكان تأثيرهم عليَّ أكبر مِن تأثيري عليهم.
ولنتحدث قليلاً عن مسجد الكوثر، وما أدراكم ما مسجد الكوثر؟! مكان في وسط غابة به مسجد رائع، وبه مكان لإقامة حوالي 90 طالبًا مِن سنِّ 15 عامًا، يَمكثون به أربع سنوات لدراسة اللغة العربية والموادِّ الشرعية، وإمامه اسمه سعيد، فهو حقًّا سعيد في الدنيا والآخِرة -إن شاء الله- وعلمنا أنه يوجد 6 طلاب يحفظون القرآن كاملاً، ولا يتحدَّثون اللغة العربية؛ لعدم استطاعتهم ممارستها، هل تشعرون بما أشعر به؟ إلى متحدِّثي اللغة العربية بطلاقة، أين أنتم مِن حفْظ القرآن والعلم الشرعي؟!
والآن أحدثكم عن ما كان سببًا في أشياء كثيرة، منها أسلوب تعاملي مع الحياة، وهي زيارتنا لمدينة لانشيا، مَن يعيشون في هذه المدينة هم قوم بسطاء جدًّا، طيِّبون، ولا تُغادِر الابتسامة وجوهَهم، رغم ما عانَوه مِن اضطهاد الحكومة ومِن ضيق العيش، فهم يَستيقِظون لصلاة الفجر، ثم تذهب النساء لحفْظ القرآن بمدارس مُلحَقة بالمسجد، ولانشيا بلدة صغيرة داخل مُقاطعة تُسمَّى "لانجيا" بولاية "قانسو"، عدد المسلمين بها حوالي مليون و300 ألف، يُشكِّلون 56 % مِن سكان الولاية، يؤمنون بالله، ويلتزمون بأركان الإسلام، وتُعتبَر الزراعة هي النشاط الاقتصادي الرئيسي للمسلمين في لانشيا، والبعض يمارس التجارة.
وهم يتمسَّكون بتقاليدهم وعاداتهم الخاصة في الشراب واللباس، ويَحتفلون بالأعياد الصينية؛ مثل عيد الربيع وعيد "يوان شياو"، والأعياد الإسلامية، وشهر رمضان، وهم يَتبعون المذهب الحنفي.
وقد قمْنا بزيارة بعض المساجد ببلدة لانشيا، وهي حوالي 8 مساجد، وملحق بتلك المساجد أيضًا المدارس التعليمية، ويُعتبَر العامل المشترك بين كل تلك المساجد أن كل المساجد بها مدارس داخلية، ولها مصاريف سنوية ، ويَتراوح عدد الطلبة في تلك المساجد بين 200 إلى 600 طالب.
لكل مسجد إمام ومدير، والإمام له منزلة كبيرة جدًّا، والناس يوقِّرونه، وحين يدخلون المسجد يتركون ممرًّا في المنتصف ليمرَّ الإمام.
إنها حقًّا نهضة بمعنى الكلمة؛ لأن المجتمع إذا خلا مِن الأخلاق، واحترام الصغير للكبير، ورحمة الكبير بالصغير، ضاعت الأخلاقيات الجميلة.
كذلك يوجد بعض المدارس التي تهتمُّ بكبار السن لتعليمهم قراءة القرآن بمساعدة متطوِّعين مِن خرِّيجي المدارس.
قمنا بزيارة معهد الدراسات الإسلامية، والذي به حوالي 600 طالب، ويُعتبَر مِن أكبر المعاهد، أسَّسه الشيخ بهاء الدين "ما تشي تشنغ"، هذا الرجل الذي أفنى حياته في سبيل نشر التعليم الإسلامي وإعادة النهضة مرة أخرى، فهنيئًا له هذا الأجر.
تمَّ استقبالنا في المعهد مِن قِبَل رئيس المعهد ونائبه، ومِن مُعظَم الأساتذة، وتمَّ فتح حوار بيننا، وكانت المفاجأة أنهم مُتابِعون للشأن المصري، بل ويحللون ما يَحدث، وطلبوا منا أن نوصل للدكتور مرسي أنهم يدعون له بالتوفيق، وأنهم يَنصحونه باتباع النموذج التركي في التغيير.
ثم قمنا بزيارة حضانة للأطفال ببطن جبل، ويطلق عليها "ياسمين"، وأسسها ويشرف عليها الشيخ "أبو بكر"، وهو مِن خرِّيجي الجامعة الإسلامية، وبها 198 طفلاً وطفلة، وهي مِن أكثر الأماكن المنظَّمة التي رأيتُها، وتدل على إدارة حازمة، وحاصلة على الأيزو في نظام الأغذية، وبها ألعاب وكل الإمكانيات الضرورية في مكان به أطفال، فهم حقًّا يَبنون أمة، وكانت المفاجأة أن أطفالاً كثيرين يَحفظون القرآن في المرحلة الابتدائية، فلا نامت أعين المسلمين في الدول العربية!
لا زلت لا أستطيع ترتيب أفكاري، فهي تتدافع؛ فقد رأيت أن أكتب الجانب العِلمي مِن الزيارة، أما الجانب الآخر، وهو الجانب الروحي، فأهل الصين عمومًا -وبالأخص أهل لانشيا- في غاية الكرم والحفاوة والفرح بالزائرين، أما بخصوص كرم الضيافة، فحدِّث ولا حرج عنهم؛ فترى كرم الصحابة وأخلاقهم.
ثم بعد ذلك حلقت طائرتنا متَّجهة إلى يوننان؛ لزيارة المركز الإسلامي بكونمين، كان في استقبالنا الأخ عبد الله، وهو مِن خريجي الجامعة الإسلامية، وتُعتبَر كونمين عاصمة يوننان، وعدد سكانها 50 مليونًا، منهم حوالي 800 ألف مسلم يتمركَزون في كونمين.
المعهد به حوالي 100 شاب وفتاة، ما بين 16 عامًا و23 عامًا، ويدرسون اللغة العربية والمواد الشرعية، بعد المعهد أخذنا جولة في كونمين، وصلَّينا الجمعة في أحد المساجد، بعدها عدنا ونحن نحمل الأمل الكبير في هذه الأمة المباركة المنصورة بإذن الله.