عندما أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم كانت البشرية قد وصلت إلى حال من التردي الذي لا يبين حقيقته إلا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: [إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب](رواه مسلم)
نعم لقد تهاوى الناس في أودية سحيقة من الجهل والظلم، وتردوا في طريق الهوى والشيطان، وأصبحت على عيونهم وقلوبهم غشاوة صفيقة عن الإيمان الصحيح، واستولت على عقولهم أوهام الخرافات وعلى نفوسهم أنواع الملذات والشهوات حتى أعمت قلوبهم قبل عيونهم، وتحكمت في حياة الناس الدينية والاجتماعية والاقتصادية طواغيت رضخ لها الناس وأذعنوا لها؛ ففسدت حياتهم، وخلت من كل قيمة للإنسان، وهدمت أرواح وعقول البشر تحت وطأة التقاليد والموروثات.
ولما وصل واقع البشرية إلى هذا الحد كان لابد من وحي إلهي يغير هذا الواقع الأليم؛ فاختار الله أحب قلوب العباد إليه قلب محمد صلى الله عليه وسلم فاختاره لهذه المهمة العظيمة، والرسالة الخطيرة، مهمة تحطيم كل هذه الطواغيت، وإعادة الناس إلى قيمة البشر، وإصلاح عقائدهم وجميع أحوالهم لترضي الله عنهم.. فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته الدعوية كلها يحطم هذه الطواغيت، في الواقع وفي حياة الناس وقلوبهم وعقولهم.
جاء في كتاب دراسات إسلامية (11-23) ما أنقل لك هنا معناه باختصار شديد وزيادات مهمة:
لقد أحدثت الدعوة الجديدة انقلابا فكريا وروحيا وعقديا واجتماعيا وأدبيا أشبه بالخوارق والمعجزات، وأعظم من نقل الجبال وتجفيف البحار، وما كان هذا ليتم لولا توفيق الله تعالى لرسوله ومعونته المطلقة له ولرسالته.
لقد حرر محمد صلى الله عليه وسلم الإنسانية من جميع جوانبها، فكانت دعوته تحطيما لطاغوت الشرك، وإعادة تشييد لبناء العقيدة الذي نقضته الخرافات والخزعبلات والتصورات الباطلة، فحرر الفكر والعقل من أوهامه، ونزه الذات الإلهية تنزيها مطلقا عن الشركاء والأنداد، وقدس الله الواحد الأحد عن الزوجة والولد، وعن كل نقص يمكن أن يتوهمه فيه البشر. وأثبت له كل صفات الكمال ونعوت الجلال، {قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد}، {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، {إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا}، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون}.
وكانت دعوته تحطيما لطاغوت التعصب في كل صوره، سواء كان للجنس أو اللون أو النوع، فحطمت ذلك كله، وجعلت مقياس الأفضلية بين الخلق لا يرجع إلا لتقوى الله تعالى وطاعته.. {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}، وفي الحديث [كلكم لآدم وآدم من تراب، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى]، وقال: [ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية] (رواه أبو داود)
وكانت هذه الدعوة أيضا هدما حتى للتعصب الديني بإعلان حرية الاعتقاد ـ بضوابطها المعروفة ـ فلا يجبر أحد على اعتناق دين ولو كان الإسلام {لا إكراه في الدين}(البقرة:156)، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}(يونس:99).. فحلت السماحة محل التعصب، وبلغت السماحة قمتها وصارت حماية حرية العقيدة وحرية العبادة واجبا مفروضا على المسلم ومجتمع المسلمين لأصحاب الديانات الأخرى في الوطن الإسلامي طالما لا يحاربوننا ولا يصدون الناس عن الدخول في الدين الذي يرغبونه، حتى قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}(التوبة:6)، وقال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(الممتحنة:8) فهل سمعت البشرية أو عرفت شيئا من هذا في كل عقائد الأرض غير الإسلام؟
لقد كانت دعوة الإسلام حربا على الطبقية والتفرقة الاجتماعية، والفخر بالأنساب والاعتزاز بالقبيلة والعلو والفخر بالآباء والأجداد، فأسقط الإسلام بدعوته كل علو وفخر بغير الدين والطاعة لرب العالمين، وهدم كل أصنام الجاهلية وساوى بين أجناس الخلق.
كانت قصة تزويجه عليه الصلاة والسلام مولاه زيد من ابنة عمه الحسيبة النسيبة زينب بنت جحش إعلانا للثورة على القوانين الجائرة والطبقية الاجتماعية الهادرة.. ثم جاءت قصة المرأة المخزومية التي سرقت ومحاولة دفع العقاب عنها ـ لمكانة قبيلتها وعلو حسبها ونسبهاـ ورفض النبي صلى الله عليه وسلم كل محاولة لرد العقوبة وتمسكه بتطبيق العدالة دلالة على أن الكل أمام الدين وفي ميزانة سواسية، حتى أولاد النبي عليه السلام لا يخرجون عن هذا العدل وتلك المساواة [والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها] صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك كانت دعوة الإسلام ثورة على البغي والظلم بكل أشكاله، فلا امتياز لطبقة على طبقة، ولا لفرد على آخر ـ حتى لو كان السلطان أو الملك أو الخليفة ـ فنزعت حق التشريع وسلطان الحكم وقوة القانون من كل أحد غير الله وصار الحكم كله لله والناس تحته سواء.. فالقانون هو شرعه والكل يخضع له سبحانه وسلطانه وقانونه ويحاكم إليه فالله ربهم وحده وهم كلهم عبيده.
ولكن يبقى توقير السلطان من الدين، ومن أهان السلطان أهانه الله، وطاعته طاعة لله طالما كانت في المعروف، فإذا أمر بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فليس هناك حكم بالحق الإلهي، وإنما السلطان في الحقيقة منفذ لقانون الرب، والعدل هو أسمى القيم: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}(النساء:135)، {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(المائدة:8).
فكانت عدالة الإسلام هي العدالة المطلقة التي لا يميل ميزانها بالحب أو البغض، ولا بالقرابة أو الحسب والنسب، والأهم أنها لم تكن مجرد نظريات وإنما أخذت طريقها للواقع وحفظها لنا التاريخ.
لقد كان الرق والعبودية نظاما عالميا معمولا به بين جميع أهل ذاك الزمان، فلم يكن من الممكن منعه، فعملت الدعوة الإسلامية ثورة لتقليصه وتخفيفه من جانبين:
الأول: تجفيف منابعه وتقليص أسبابه، وغلق أبوابه. فكان الحث على إعتاق الأرقاء والترغيب فيه.. فجعله الإسلام كفارة لكثير من المخالفات، ورغب فيه مطلقا [من أعتق مملوكا أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار... ]
الثاني: تكريم الأرقاء ورفعهم من مستوى الذل والحيوانية، كما كان ينظر إليهم الآخرون ويعاملونهم به، إلى مستوى الإنسانية والإحسان إليهم بوصفهم بشر لهم حقوق وشعور، ووقف جميع صور الاعتداء عليهم بغير حق: [من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه] متفق عليه.. وفي الحديث الصحيح: [إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم].
كان وضع النساء في الجاهلية العربية والحضارة اليونانية والرومانية والحضارات الأرضية مزريا، فقد تسلط عليها الرجل حتى حاول بعض رجال الكنيسة أن يسلبوها حق الإنسانية برمته، بعد أن استلبوا جسدها واستباحوا شرفها في الغرب، وأكلوا حقوقها في الشرق فصارت كسقط المتاع، فكانت دعوة الإسلام دعوة حقيقية سابقة لتحريرها من ظلم الرجل وما تواضع عليه الناس، فأعاد الإسلام إليها كرامتها وجعل حقها شريعة ودينا، فهي والرجل سواء في التكليف والإنسانية والثواب والعقاب والمسؤولية أمام الله تعالى إلا ما اختصت به دون الرجال.. وما أجمل وأكمل قول الله تعالى: { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب}(آل عمران: 195)، فلا فرق بينها وبينه في كل هذا كما أن لها الحق في التملك والإرث والحق في البيع والشراء وأن تتاجر بمالها: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا} وقال تعالى: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن}.
وأما في حقها في النكاح واختيار الزوج فالأمر رد إليها بعد أن كان قد سلب منها؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: [لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها صمتها](متفق عليه).
فقد قرر الإسلام للمرأة الحق في حياتها الروحية، كما قرره لها في حياتها المادية على قدم المساواة مع الرجل دون تردد ولا تلعثم.
نعم هكذا كانت دعوة الإسلام.. دعوة لتغيير واقع الإنسان من اللاإنسانية إلى الحياة البشرية الحقيقية، ومن الخضوع إلى كل أشكال طواغيت الأرض إلى التحرر من كل ذلك والعز بالخضوع إلى الله الواحد الأحد، لقد صار للإنسان بعد رسالة الإسلام قيمة، ومتى عاد الناس إلى سابق عهدهم وإلى الخضوع لغير ربهم عادوا كما كانوا بلا وزن ولا قيمة.