هل تحسب يا أخي القارئ أن الربانيين تحدهم مقصورة العبادة التوفيقية المباركة، أو ساحة الزهادة والتبتل فحسب!! لا والذي قال في كتابه [كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا] سورة الإسراء:20) [ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون] (النحل:96).
ففضله جل شأنه لا تحده حدود، وعطاؤه دائم لا ينفد، وكم للعبادة في ديننا من محاريب، وما دام الإسلام هو النور الذي لابد أن يضيء جنبات الحياة كلها، فكل من يحمل هذا النور للناس بصدق وإخلاص فله من فضل الله، وله من العطاء الذي لا تنفد خزائنه القسط الأوفى، والأجر بغير حساب.
ولعل الذي يكون على مورد من موارد السلطان مما تخضع له النفوس، وتزل عنده الأقدام، ويحوم حوله الشيطان ليبيض ويفرخ يكون أدعى للحكم على صاحبه بأنه أكثر قرباً إلى الله من ذاك الذي ليس على مورد الامتحان ولم تنفتح أمامه أبواب الشهوة والسلطان وأن يأمر فيطاع ولا نزكي على الله أحداً..
لذلك كان هذا الرجل ـ نور الدين الشهيد ـ رحمه الله الذي أبلى في مقارعة الباطل، ورسم الخطة المثلى لطرد الصليبيين من على أرضنا، وجاهدهم بنفسه وماله وسلطانه، وكان على الصراط السوي في علاقته بالله عز وجل وبالناس، لذلك كان هذا الرجل وهو يمثل عاتق الميزان يومذاك، ممن يتوجب على الأمة أن تضعهم موضع الأسوة والريادة، وتفتح بصر الجيل وبصيرته في كل مصر على صدقهم مع الله، وجهادهم، وإخلاصهم، وطاعتهم لله وحرصهم على دينه، فكل شيء لديهم مجند لخدمة هذا الإسلام.
لقد كان من سيرة نور الدين رحمه الله وأجزل الله مثوبته، أنه كان يدعو دائماً إلى الانقياد إلى أوامر الشرع وأحكامه، دون تفريق بين أبناء الرعية، وكثيراً ما كان يقول: لا فرق أمام الشرع بين صغير وكبير، واشتهر ذلك عنه، حتى أصبح كل أولئك الذين هم في موضع المسؤولية أو الغنى والجاه.. وما إلى ذلك لا يتردد الواحد منهم لحظة في حضور مجالس الحكم الشرعي والامتثال لما تأمر به الشريعة. فكان ذلك طابع المساواة بين الناس أمام ما يحكم به الله تبارك وتعالى.
وفي يوم من أيام التدريب على السلاح في مواجهة الصليبيين ونور الدين يقوم بواجبه في ذلك.. رأى رجلاً يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين. فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه؟ فإذا هو رجل معه رسول من جهة القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين رحمه الله وأعلمه بذلك، ألقى ما بيده من سلاح التدريب، وأقبل على خصمه ماشياً إلى القاضي، وأرسل نور الدين إلى القاضي ينبهه أن لا يعامله إلا معاملة الخصوم سواء بسواء.
وحين وصل ـ وهو صاحب السلطة ـ مع خصمه إلى مجلس القاضي وقف مع خصمه بين يدي القاضي، شأنه في ذلك شأن أي واحد من المتخاصمين من أبناء رعيته، وظل واقفاً حتى فصل القاضي في الخصومة والحكومة. ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت حق السلطان نور الدين مع الرجل، فلما تبين ذلك قال ـ أحسن الله ذكره مع الآخرين ـ إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام خدم لرسول الله، وحراس لشرعه، وقائمون بين يديه، وطوع ما يريد، فما أمر به امتثلناه، وما نهى عنه اجتبناه، وأنا أعلم أنه لا حق له عندي، ومع هذا أشهدكم أني ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.
أرأيت - يا أخي - إلى هذا الرجل الرباني، أرأيت كيف أن الطرق إلى مرضاة الله مفتحة الأبواب، وأن من يرد الله به خيراً يجعل له واعظاً من نفسه، وعندها ـ أيضاً ـ لا يقرب إلا بطانة الخير، التي تذكره إذا غفل، وتنصحه إذا مال عن الصراط السوي.
إن نور الدين الشهيد مثل مشرق مضيء في تاريخنا يعطي الدليل على أن الذي يراد له أن ينقذ الأمة من وهدتها، ويقودها إلى ساحة الكرامة ومرضاة الله لابد أن يكون هو في نفسه كذلك، وأن تكون الزلفى إلى الله أغلى عنده من كل ما يملك من وسائل الظهور والاستعلاء.
إن نور الدين بما جعل للشرع من سلطان على نفسه وقلبه، وبما زان أعماله من العبودية الخالصة لله عز وجل، وبما كان يرى أن ما أعطيه من متاع الدنيا وسلطانها ظل زائل... إن نور الدين بما كان له من ذلك كله، بوأه هذه المكانة، وكتب الله على يديه أن يعبد طريق الأمة للتحرر من هجمات الصليبيين وما كان من حملاتهم الشرسة على ديارنا ومقومات وجودنا..
جزى الله نور الدين الشهيد عن الأمة خير جزائه وأعلى مقامه في الآخرين.. وهكذا يعلم الربانيون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ: محمد أديب الصالح