كان ذلك قبل عقد ونيف. كنت أجلس في “الليالي الزُّهْرِ على التِّلال العُفْرِ” ببادية موريتانيا وبيدي جهاز إذاعي يشدو من خلاله صوت دافئ منشدا:
يا طلل الحيّ بذات الصمد * بالله خبرْ كيف كنت بعدي؟
ولم يكن صاحب الصوت إلا عارف أحمد الحجاوي.
كنتُ غض الإهاب يومها هائما بالكلمة الجميلة واللسان القويم، وكنت أسجل كل ما ينبس به الرجل على شريط أخلو إليه إذا تعكر الخاطر وكبا الدهر الحرُون.
اكتمل لدي شريط من روائع الأدب بصوت الرجل في عالم أحسست أن لغة سيطرت عليه، وكنت ضنينا بالشريط إلى أن ضاع. وتلك شنشنة في أقوام حديثي عهد ببداوة.
دارت السنون واسّارعت خطى التاريخ فوجدتني والرجلَ زميليْ عمل تُكننا مدينة الدوحة.
كان من حظي أن التقيته وهو يستعد لطباعة مختاراته المعنونة بـ”عصارة المتنبي”. زرته بمكتبه فدفع لي نسخة من الكتاب وشرفني أن أطالعها قبل أن تطبع، وفعلتُ.
انتهزت فرصة وقوع الكتاب بيدي فأصبحت أتعمد المرور بالشيخ متعللا بالكتاب إلا أني كنت أريد الاقتراب من الرجل.
فأنا أحسب من حافظ على علاقة بالأدب وهو في خضم الإعلام كمن فاه بكلمة حق عند سلطان جائر. فالمفاوز التي تفصل بين خشونة العمل الصحفي وطراوة الأدب مفاوز:
ينوح بها الخريتُ ندباً لنفسه * إذا اختلفتْ حصباؤها ودبورُها.
هي مفاوز لا يصبر فيها إلا أفذاذ الرجال.
وبدأت أقرأ مختارات الشيخ من شعر الشيخ رغم أني كنت مشغول الخاطر أرتب للسفر إلى جنوب إفريقيا.
ورددت “العصارة” للشيخ..
وكنت إذا ما جئتُ جئتُ بعلة * فأفنيت علاتي فكيف أقول؟
سافرتٌ جنوبا ويمم “المتنبي” أرض مصر لتطبعه دار الشروق، رغم أن كافورا هناك.
وكنت خِلتُ الكتاب سيجد صدى لأن الرجل بذل في تصحيحه وتشكيله جهدا يُذكر بتحقيقات أربعينيات القرن الماضي. لكن الأمة العربية لا تفتأ تبرهن على أن الهزيمة الثقافية تسبق أختها العسكرية.
عنوان الكتاب: “عصارة المتنبي..مختارات مشروحة من شعر أبي الطيب المتنبي”.
المؤلف: عارف أحمد الحجاوي
عدد الصفحات: 301
الناشر: دار الشروق 2009
والكتاب عبارة عن منتقيات من أهم ما فاه به ابن الحسين. يقول المؤلف في الأسطر الأولى من مقدمته الواقعة في 36 صفحة:
“انتقيت لك من شعر المتنبي 1433 بيتا هي العصارة. وتمثل ربع ديوانه. ثم شرحتها شرحا وافيا، فما غادرت كلمة مهجورة أو عبارة ملتوية أو فكرة غامضة إلا فسرتها لك تفسيرا. وجعلت شرح كل بيت تحته على طريقة القدماء. وجعلت الشرح بخط دقيق حتى ينماز عن الأبيات، فمن استقام له المعنى واستغنى عن الشرح هان عليه أن يقفز بعينه إلى البيت الذي يليه.(ص 5).
من الواضح من مقدمة المؤلف أنه نخل كل شروح المتنبي – وما أكثرها- ليتمكن من شرح العصارة بلغة سهلة “كالتي تقرؤها في الجرائد” حسب تعبير المؤلف.
إخال القارئ سيجد من اللمحات في هذا الكتاب ما لا يجد في غيره وذلك نظرا للخلفية الثقافية للمؤلف. فقد اتفق له ما لم يتفق لغيره ممن تناولوا المتنبي قبل.
فالرجل يجمع ما بين الثقافة العربية الأصيلة المستقاة من ممارسته لكتابات الجاحظ، وكنوز الثقافة العربية، إلى ثقافة الغرب التي احتك بها مقيما في حاضرة لندن ما يقارب العقدين.
لقد أحسستُ في تعاليق المؤلف على سَجَداتِ الديوان شكوى الأدباء وغربة الأدب، والعزاء أن شكوى الأدباء من العقوق ليست وليدة العصر. فأنت لا تطلع على عصر من العصور إلا وتسمع عقيرة الأدب شاكية من ظلم الأيام وعقوق الليالي.
فبدءاً من الأمير الفاتح الباسل مسلمة ابن عبد الملك الذي ترك وصية بأن ثلث ماله يقسم بين “الأدباء لأنهم أهل حرفة مجفوة”، مرورا بالتوحيدي الذي أحرق كتبه حنقا على معاصرين لم يولوا الأدب حقه، وانتهاء بأبي هلال العسكري الذي أكاد أراه مفترشا الثرى بائعا في السوق منشدا:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري * دليل على أن الأنام قرود
ولا خير في قوم يذل كرامهم * ويعظم فيهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عني رثاثة ملبسي * هجاء قبيحا ما عليه مزيد!.
أما الشيخ عارف فمتحفظ من أن تسقط منه عبارة تشي بالشكوى، لكني كنت أرمقه في الدوحة وسط أقوام هم أبعد ما يكونون عن عالمه الذي بين جنبيه فكنت أرحمه وأشفق عليهم.
والشيخ كتب بعد عصارة المتنبي عن البحتري وشوقي..
وسأتركه يبثك آلامه لتعلم أن أمتك وأمته لن تفلح ما لم تحترم ذاتها ولغتها..
“وقد رأيت في زمني دكاترة – عدمتُهم – يحملون شهادات في الأدب العربي لا يذوق الواحد منهم شعراً ولا يقيم بيتاً”.
“عندي ثقة أن شباب العرب لن يستمروا في إهمال هذا التراث من الحكمة والأدب. ونحن نبعث أولادنا وبناتنا إلى المدارس التي تدرسهم باللغات الأجنبية والتي تجعلهم يزدرون تراثهم، وهم هناك يدرسون قليلا من شكسبير ومن قصص وروايات الشعوب المسيطرة علينا وعلى العالم. ولكنهم لا يتمكنون من النص الشكسبيري ولا يتمثلون الثقافات الأخرى. يخرجون من تلك المدارس مخلوقات مشوهة في وجدانها ويصبح خريجو المدارس الأجنبية وزراء للمعارف ويفرضون على كل طلبة الوطن مناهج كالتي درسوها.(عصارة المتنبي 116)
ويقول في كتابه عن البحتري:
“يا قارئ! أنا تعبان معك. أكتب مسدود النَّفس. كنت كتبت لك كتاباً عن أحمد شوقي في خمسمائة صفحة سميته (شاعر الألف سنة) مخضت لك فيه العشرين ألف بيت التي قالها أحمد شوقي وتخيرت زبدة الزبدة وشرحتها شرحاً لم يتفق مثله لأحد؛ ثم كتبت كتاباً عن المتنبي في ثلاثمئة صفحة سميته (عصارة المتنبي)، عصرت لك فيه روح أبي الطيب وصنعت كما صنعت مع شوقي. ولم يقرأ كتابيَّ ذينك أحد. ولم يقل فيهما أحد شيئاً. فإن كنت تظن أنني أكتب لنفسي أو للأجيال المقبلة فاعلم أن لا. لتذهب الأجيال المقبلة إلى سقر. وبعد أضع رأسي على طوبتي لن يهمني أقال فيَّ الناس خيراً أم شراً، أبالوا على قبري أم وضعوا عليه الورد.
سأَصبِرُ حتى أُلاقيِ رِضَا كَ، إِمَّا بَعيداً، وإِمَّا قريبا
سيأتيني رضاك في النهاية أكان بعيداً عني أم قريباً مني”
وأما إن كنت محباً للشعر القديم، غير آبه بتلك الأوراق التي توزعها الجامعات على من يدفع القسط السنوي، وتسميها شهادات، فقد وصلتَ إلى بئر عذبة.”(عصارة البحتري ص 9)
أبشر شيخنا عارف،
فلئن عقتك أيامك وأحسست بضياع جهدك فإن ثلة من محبي الأدب قارئو ما أنت كاتب..
وسيظلون متعلقين بالكلمة الجميلة والأفكار العظيمة ما دامت هناك شمس تشرق وأخرى تغرب.
وما دام للزهرة شذى ولعيون البدويات حَوَرٌ.
تحياتي من بلاد الحرية.. بلاد مانديلا.