الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وقد ورد في تكرير قراءتها خمسين مرة أو أكثر من ذلك، وعشر مرات عقيب كل صلاة أحاديث كثيرة فيها ضعف، وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثي خرجه الطبراني ، وأبو يعلى من طرق كلها ضعيفة فلم نذكرها .

                                                                                                                                                                                          وأما سبب نزولها: ففي "المسند" والترمذي عن أبي سعيد الصاغاني [ ص: 663 ] محمد بن مبشر عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك يا محمد; فأنزل الله: قل هو الله أحد ورواه الترمذي من طريق عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية مرسلا . وقال: هذا أصح من حديث أبي سعيد .

                                                                                                                                                                                          ورواه أبو يعلى الموصلي والطبراني وابن جرير من طريق شريح بن يونس عن إسماعيل بن مجالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر : أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: انسب لنا ربك؟ فأنزل قل هو الله أحد إلى آخرها، وروي مرسلا .

                                                                                                                                                                                          وروى عبيد بن إسحاق العطار عن قيس بن الربيع عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: قالت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك فنزلت: قل هو الله أحد قال الطبراني : ورواه الفريابي وغيره عن قيس عن عاصم عن أبي وائل مرسلا . وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا أبو زرعة : ثنا العباس بن الوليدة ثنا يزيد بن زريع: ثنا علي بن الحسين : ثنا أبو عبد الله الحرشي: ثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى: ثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن اليهود جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فقالوا: يا محمد، صف لنا الذي بعثك؟ فأنزل الله: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد فيخرج منه الولد، ولم يولد فيخرج [ ص: 664 ] من شيء .

                                                                                                                                                                                          وأما التفسير: فقوله: قل هذا افتتاح للسورة بالأمر بالقول، كما في المعوذتين وسورة الجن .

                                                                                                                                                                                          وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المعوذتين فقال: "قيل لي فقلت " وذلك إشارة منه إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - مبلغ محض لما يوحى إليه، ليس فيه تصرف لما أوحاه الله إليه بزيادة ولا نقص، وإنما هو مبلغ لكلام ربه كما أوحاه إليه فإذا قال: قل هو الله أحد كان امتثالا للقول الذي قيل له بلفظه لا بمعناه، و (هو) : اسم مضمر قيل إنه: ضمير الشأن، وقيل: لا .

                                                                                                                                                                                          و (الله أحد) إن قيل: هو ضمير الشأن، فالجملة مبتدأ وخبر . وإن قيل: لا، ففيه وجهان، أحدهما: أن (هو) مبتدأ، و (الله أحد) مبتدأ وخبر، وهما خبر للمبتدأ الأول، ولا حاجة فيه إلى رابط لأن الخبر هو المبتدأ بعينه .

                                                                                                                                                                                          والثاني: أن (هو) مبتدأ و (الله) خبره و (أحد) بدل منه . و (أحد) : اسم من أسماء الله يسمى الله به، ولا يسمى غيره من الأعيان فلا يسمى شيء من الأشياء أحدا في الإثبات إلا في الأعداد المطلقة . وإنما يسمى به في النفي وما أشبهه من الاستفهام والنهي، والشرط كقوله: ولم يكن له كفوا أحد وقوله: هل تحس منهم من أحد وقوله: [ ص: 665 ] فلا تدعوا مع الله أحدا وقوله: وإن أحد من المشركين استجارك ونحوه .

                                                                                                                                                                                          والأحد: هو الواحد في إلاهيته وربوبيته، وفسره أهل الكلام، بما لا يتجزأ ولا ينقسم، فإن أريد بذلك أنه ليس مؤلفا مركبا من أجزاء متفرقة فصحيح، أو أنه غير قابل للقسمة فصحيح، وإن أريد أنه لا يتميز منه شيء عن شيء، وهو المراد بالمجسم عندهم فباطل .

                                                                                                                                                                                          قال ابن عقيل : الذي يصح من قولنا مع إثبات الصفات أنه واحد في إلاهيته لا غير . والأحد هو الواحد .

                                                                                                                                                                                          قال ابن الجوزي : قاله ابن عباس وأبو عبيدة ، وفرق قوم بينهما .

                                                                                                                                                                                          قال الخطابي : الفرق بين الأحد والواحد: أن "الواحد": هو المتفرد بذاته فلا يضاهيه أحد .

                                                                                                                                                                                          و"الأحد": المنفرد بصفاته ونعوته فلا يشاركه فيها أحد .

                                                                                                                                                                                          وقيل: بينهما فرق آخر، وهو أن الأحد في النفي نص في العموم . بخلاف الواحد فإنه محتمل للعموم وغيره، فتقول: ما في الدار أحد، ولا يقال: بل اثنان، ويجوز أن يقال: ما في الدار واحد، بل اثنان .

                                                                                                                                                                                          وفرق بعض فقهاء الحنفية بينهما وقال: الأحدية لا تحتمل الجزئية والعددية بحال . والواحد يحتملها لأنه يقال: مائة واحدة وألف واحدة، ولا يقال: مائة أحد ولا ألف أحد . [ ص: 666 ] وبني على ذلك مسألة محمد بن الحسن التي ذكرها في "الجامع الكبير": إذا كان لرجل أربع نسوة فقال: والله لا أقرب واحدة منكن صار مؤليا منهن جميعا، ولم يجز أن يقرب واحدة منهن إلا بكفارة، ولو قال: والله لا أقرب إحداكن لم يصر مؤليا إلا من إحداهن والبيان إليه .

                                                                                                                                                                                          وقال العسكري: أصل أحد أوحد مثل أكبر، وإحدى مثل كبرى، فلما وقعا اسمين وكانا كثيري الاستعمال هربوا إلى الكسرة ليخف، وحذفوا الواو ليفرقوا بين الاسم والصفة، وذلك أن أوحد اسم وأكبر منه .

                                                                                                                                                                                          والواحد فاعل من وحد يحد وهو واحد مثل: وعد يعد فهو واعد .

                                                                                                                                                                                          سؤال: قوله: الله أحد ولم يقل الأحد كما قال: الصمد ؟ جوابه: أن الصمد يسمى به غير الله كما يأتي ذكره، فأتى فيه بالألف واللام ليدل على أنه - سبحانه - هو المستحق لكمال الصمدية، فإن الألف واللام تأتي لاستغراق الجنس تارة، ولاستغراق خصائص أخرى، كقوله: زيد هو الرجل أي: الكامل في صفات الرجولة فكذلك قوله: الله الصمد أى: الكامل في صفات الصمدية .

                                                                                                                                                                                          وأما الأحد فلم يتسم به غير الله فلم يحتج فيه إلى الألف واللام . قوله: الله الصمد أعاد الاسم المبتدأ تأكيدا للجملة ، وخبره الصمد . وقيل: هو نعت والخبر ما بعده .

                                                                                                                                                                                          والصمد: اختلفت عبارات السلف في معناه، وهي متقاربة أو متفقة والمشهور منها قولان:

                                                                                                                                                                                          أحدهما: أن الصمد هو السيد الذي تصمد إليه الخلق في حوائجهم [ ص: 667 ] ومطالبهم وهو مروي عن ابن عباس وغيره من السلف .

                                                                                                                                                                                          قال ابن الأنباري : لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد: السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم .

                                                                                                                                                                                          وقال الزجاج : هو الذي ينتهي إليه السؤدد، فقد صمد له كل شيء . أي: قصد قصده . وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                          لقد بكر الناعي بخير بني أسد . بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد



                                                                                                                                                                                          وأنشدوا أيضا:


                                                                                                                                                                                          علوته بحسام ثم قلت له .     خذها حذيف فأنت السيد الصمد



                                                                                                                                                                                          وفي "تفسير ابن أبي حاتم " بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: الصمد: الذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة، أو بلاء .

                                                                                                                                                                                          وعن إبراهيم قال: الذي يصمد إليه العباد في حوائجهم .

                                                                                                                                                                                          وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال: الصمد: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد . وهو الله - سبحانه - هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفو وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار .

                                                                                                                                                                                          والقول الثاني: أن الصمد الذي لا جوف له، وأنه الذي لا يأكل ولا يشرب [ ص: 668 ] والذي لا حشو له، وأنه الذي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء . ونحو هذه العبارات المتقاربة في المعنى . وروي ذلك عن ابن مسعود ، وقد سبق في حديث أبي هريرة المذكور في أول تفسير السورة: والصمد الذي ليس بأجوف . وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبيد الله بن سعيد - قائد الأعمش -: حدثني صالح بن حيان عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: لا أعلم إلا أنه قد رفعه: قال: "الصمد: الذي لا جوف له " .

                                                                                                                                                                                          وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود قال: الصمد ليس له حشاء .

                                                                                                                                                                                          وروي عن ابن عباس أيضا وعكرمة : الصمد الذي لا يطعم . وعنه: الصمد: الذي لم يخرج منه شيء . وعن الشعبي : الصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب .

                                                                                                                                                                                          وعن مجاهد : هو المصمت الذي لا جوف له .

                                                                                                                                                                                          وقال طائفة: الصمد: الذي لم يلد ولم يولد، كأنهم جعلوا ما بعده تفسيرا له، وهو مما تقدم أنه الذي لم ينفصل منه شيء .

                                                                                                                                                                                          وروي ذلك عن أبي بن كعب والربيع بن أنس .

                                                                                                                                                                                          وتوجيه ذلك: الولادة والتوليد إنما يكون من أصلين، وما كان عينا قائما بنفسه من المتولدات فلا بد له من مادة يخرج منها، وما كان عرضا قائما بغيره فلا بد له من محل يقوم به، فالأول: نفاه بقوله: "أحد" فإن الأحد هو [ ص: 669 ] الذي لا كفو له ولا نظير فيمتنع أن يكون له صاحبة . والتولد إنما يكون بين شيئين، وكونه تعالى أحدا، ليس أحد كفوا له يستلزم أنه لم يلد ولم يولد، لأن الوالد والولد متماثلان متكافئان، وهو تعالى أحد لا كفو له . وأيضا فالتولد يحتاج إلى زوجة وهي مكافئة لزوجها من وجه، وذلك أيضا ممتنع . ولهذا قال تعالى: أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وقد فسر مجاهد "الكفو" هاهنا بالصاحبة .

                                                                                                                                                                                          وأما الثاني; وهو: انفصال المادة فنفاه - سبحانه - بأنه الصمد، وهو المتولد من أصلين، ربما يتكون من جزئين ينفصلان من الأصلين، كتولد الحيوان من أبيه وأمه بالمني الذي ينفصل منهما، وكالنار المتولدة من بين الزندين سواء كانا خشبين أو حجرين أو حجرا وحديدا . وهو - سبحانه - صمد لا يخرج منه شيء منفصل عنه . والحيوان نوعان: متوالد: وهو ما ولده من جنسه، وهو الإنسان وما يخلق من أبوين من البهائم والطير وغيرهما . ومتولد: وهو ما يخلق من غير جنسه كدود الفاكهة والخل، وكالقمل المتولد من الوسخ، والفار والبراغيث وغير ذلك مما يخلق من التراب والماء . وإنما يتولد من أصلين أيضا كما خلق آدم من تراب وماء . وإلا فالتراب المحض الذي لم يختلط به ما لا يخلق منه شيء لا حيوان ولا نبات، والنبات جميعه إنما يتولد من أصلين أيضا . [ ص: 670 ] والمسيح - عليه السلام - خلق من مريم ونفخة جبريل، وهي حملت به كما تحمل النساء وولدته، فلهذا يقال له: ابن مريم، بخلاف حواء فإنها خلقت من ضلع آدم، فلا يقال: إنه أبوها ولا هي ولده . وكذلك سائر المتولدات من غيرهما . كما أن آدم لا يقال: إنه ولد التراب ولا الطين، والمتولد من جنسه أكمل من المتولد من غير جنسه، ولهذا كان خلق آدم أعجب من خلق أولاده . فإذا نزه الرب عن المادة العلق وهي التولد من النظير، فتنزهه عن تولده من غير نظير أولى، كما أن تنزيهه عن الكفو تنزيه له عن أن يكون غيره أفضل منه بطريق الأولى .

                                                                                                                                                                                          فتبين أن ما يقال: إنه متولد من غيره من الأعيان القائمة بنفسها لا يكون إلا من مادة تخرج من ذلك الوالد، ولا تكون إلا من أصلين، والرب تعالى صمد، فيمتنع أن يخرج منه شيء وهو - سبحانه - لم يكن له صاحبة فيمتنع أن يكون له ولد .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية