الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية الذي يحسن به الظن المتكلمون: إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام . فوقعوا في تشبيهه بالمعاني، والمعاني محدثة كالأجسام، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات . وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يؤخذ من أدلة العقول، ولا يؤخذ مما جاء به الرسول . وأما أهل العلم والإيمان، فيعلمون أن ذلك كله متلقى مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه، ولا عدول عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة ما ظاهره كفر أو تشبيه أو مستحيل، بل كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حق وصدق، يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته . وما أشكل فهمه من ذلك، فإنه يقال فيه ما مدح الله الراسخين من أهل العلم، أنهم يقولون عند المتشابهات: آمنا به كل من عند ربنا وما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متشابه الكتاب، أنه يرد إلى عالمه، والله يقول [ ص: 579 ] الحق ويهدي السبيل .

                                                                                                                                                                                          وكلمة السلف وأئمة أهل الحديث متفقة على أن آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة كلها تمر كما جاءت، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل .

                                                                                                                                                                                          قال أبو هلال : سأل رجل الحسن عن شيء من صفة الرب عز وجل . فقال: أمروها بلا مثال .

                                                                                                                                                                                          وقال وكيع : أدركت إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعرا، يحدثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئا .

                                                                                                                                                                                          وقال الأوزاعي : سئل مكحول والزهري عن تفسير هذه الأحاديث، فقالا: أمرها على ما جاءت .

                                                                                                                                                                                          وقال الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي ومالكا وسفيان وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة والقرآن، فقالوا: أمروها بلا كيف .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن عيينة : ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                          وكلام السلف في مثل هذا كثير جدا .

                                                                                                                                                                                          وقال أشهب: سمعت مالكا يقول: إياكم وأهل البدع . فقيل: يا أبا عبد الله ، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان . خرجه أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي في كتاب "ذم الكلام " . [ ص: 580 ] وروى - أيضا - بأسانيده ذم الكلام وأهله عن مالك ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف، ومحمد ، وابن مهدي، وأبي عبيد ، والشافعي ، والمزني، وابن خزيمة .

                                                                                                                                                                                          وذكر ابن خزيمة النهي عنه عن مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد وإسحاق وابن المبارك ويحيى بن يحيى ومحمد بن يحيى الذهلي . وروى السلمي - أيضا - النهي عن الكلام وذمه عن الجنيد وإبراهيم الخواص .

                                                                                                                                                                                          فتبين بذلك أن النهي عن الكلام إجماع من جميع أئمة الدين من المتقدمين من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، وأنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم من أئمة المسلمين . ومن جملة صفات الله التي نؤمن بها، وتمر كما جاءت عندهم: قوله تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا ونحو ذلك مما دل على إتيانه ومجيئه يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                          وقد نص على ذلك أحمد وإسحاق وغيرهما . وعندهما: أن ذلك من أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بمشيئته واختياره .

                                                                                                                                                                                          وكذلك قاله الفضيل بن عياض وغيره من مشايخ الصوفية أهل المعرفة .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكر حرب الكرماني أنه أدرك على هذا القول كل من أخذ عنه العلم في البلدان، وسمى منهم: أحمد وإسحاق والحميدي وسعيد بن منصور . وكذلك ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه المسمى بـ "الإبانة"، وهو من أجل كتبه، وعليه يعتمد العلماء وينقلون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابوني [ ص: 581 ] وأبي القاسم ابن عساكر وغيرهم .

                                                                                                                                                                                          وقد شرحه القاضي أبو بكر ابن الباقلاني . وقد ذكر الأشعري في بعض كتبه أن طريقة المتكلمين في الاستدلال على قدم الصانع وحدوث العالم بالجواهر والأجسام والأعراض محرمة عند علماء المسلمين .

                                                                                                                                                                                          وقد روي ذم ذلك وإنكاره ونسبته إلى الفلاسفة عن أبي حنيفة .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن سريج: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: الشهادتان . وتوحيد أهل الباطن من المسلمين: الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنكار ذلك . خرجه أبو عبد الرحمن السلمي . وكذلك ذكره الخطابي في رسالته في "الغنية عن الكلام وأهله " . وهذا يدل على أن ما يؤخذ من كلامه في كثير من كتبه مما يخالف ذلك ويوافق طريقة المتكلمين فقد رجع عنه، فإن نفي كثير من الصفات إنما هو مبني على ثبوت هذه الطريقة .

                                                                                                                                                                                          قال الخطابي في هذه الرسالة في هذه الطريقة في إثبات الصانع: إنما هو شيء أخذه المتكلمون عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتو النبوات، فقد أغناهم الله عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يؤمن العنت على من ركبها، والإبداع والانقطاع [ ص: 582 ] على سالكها .

                                                                                                                                                                                          ثم ذكر أن الطريق الصحيحة في ذلك: الاستدلال بالصنعة على صانعها . كما تضمنه القرآن، وندب إلى الاستدلال به في مواضع، وبه تشهد الفطر السليمة المستقيمة . ثم ذكر طريقتهم التي استدلوا بها، وما فيها من الاضطراب والفساد والتناقض والاختلاف . ثم قال: فلا تشتغل - رحمك الله - بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم . فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه ويفارقه، فكل بكل معارض، وبعضهم ببعض مقابل . قال: وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من الثبات والحذق في صنعة الجدال والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم [ . . . ] تقودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق [ . . . ] جعلوه مبطلا، وحكموا بالفلج لخصمه عليه . والجدل لا يقوم به حق [ . . . ] به حجة .

                                                                                                                                                                                          وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين، كلاهما باطل، ويكون الحق في ثالث غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه، وإن كان مفسدا به قول خصمه، لأنهما مجتمعان معا في الخطأ . [ ص: 583 ] مشتركان فيه، كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                          حجج تهافت كالزجاج تخالها . حقا وكل واهن مكسور



                                                                                                                                                                                          ومتى كان الأمر كذلك، فإن أحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي نصرها أصلا صحيحا، وإنما هو أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب، كما قال تعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فأخبر تعالى أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده، وهو من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة، لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل . وذكر بقية الرسالة، وهي حسنة متضمنة لفوائد جليلة، وإنما ذكرنا هذا القدر منها ليتبين به أن القواعد العقلية التي يدعي أهلها أنه قطعيات لا تقبل الاحتمال، فترد لأجلها - بزعمهم - نصوص الكتاب والسنة وتصرف عن مدلولاتها، إنما هي عند الراسخين شبهات جهليات، لا تساوي سماعها، ولا قراءتها، فضلا عن أن يرد لأجلها ما جاء عن الله ورسوله، أو يحرف شيء من ذلك عن مواضعه .

                                                                                                                                                                                          وإنما القطعيات ما جاء عن الله ورسوله من الآيات المحكمات البينات . والنصوص الواضحات، فترد إليها المتشابهات، وجميع كتب الله المنزلة متفقة على معنى واحد، وإن ما فيها محكمات ومتشابهات، فالراسخون في العلم يؤمنون بذلك كله، ويردون المتشابه إلى المحكم، ويكلون ما أشكل عليهم [ ص: 584 ] فهمه إلى عالمه، والذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويردون المحكم . ويتمسكون بالمتشابه ابتغاء الفتنة، ويحرفون المحكم عن مواضعه، ويعتمدون على شبهات وخيالات لا حقيقة لها، بل هي من وساوس الشيطان وخيالاته، يقذفها في القلوب . فأهل العلم والإيمان يمتثلون في هذه الشبهات ما أمروا به من الاستعاذة بالله، والانتهاء عما ألقاه الشيطان، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك من علامات الإيمان، وغيرهم فيصغون إلى تلك الشبهات، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمة لها في نفسها وليس لها معنى يصح، فيجعلون تلك الألفاظ - محكمة لا تقبل التأويل، فيردون كلام الله ورسوله إليها، ويعرضونه عليها، ويحرفونه عن مواضعه لأجلها .

                                                                                                                                                                                          هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية والخوارج والروافض والمعتزلة ومن أشبههم، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم في بعض الأشياء دون بعض .

                                                                                                                                                                                          وأما السلف وأئمة أهل الحديث، فعلى الطريقة الأولى، وهي الإيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أثبته له، مع نفي التمثيل والكيفية عنه، كما قاله ربيعة ومالك وغيرهما من أئمة الهدى في الاستواء،

                                                                                                                                                                                          وروي عن أم سلمة أم المؤمنين، وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول، وكذلك القول في سائر الصفات، والله سبحانه وتعالى الموفق . [ ص: 585 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" فأكون أول من يجوز بأمته حتى يقطع الجسر بأمته " . وروي: "يجيز"، وهما لغتان، يقال: جزت الوادي وأجزته، وهما بمعنى . وعن الأصمعي ، قال: أجزته: قطعته، وجزته: مشيت عليه .

                                                                                                                                                                                          وقوله: "منهم الموبق بعمله" أي: الهالك .

                                                                                                                                                                                          وقوله: "ومنهم المخردل"، هو بالدال المهملة والمعجمة -: لغتان مشهورتان، والمعنى: المقطع، والمراد - والله أعلم -: أن منهم من يهلك فيقع في النار، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسر جهنم، ثم لا ينجو ولا يقع في النار .

                                                                                                                                                                                          وقيل: معناه أنه ينقطع عن النجاة واللحاق بالناجين .

                                                                                                                                                                                          والمقصود من تخريج الحديث بطوله في هذا الباب: أن أهل التوحيد لا تأكل النار منهم مواضع سجودهم، وذلك دليل على فضل السجود عند الله وعظمته، حيث حرم على النار أن تأكل مواضع سجود أهل التوحيد . واستدل بذلك بعض من يقول: إن تارك الصلاة كافر، فإنه تأكله النار كله، فلا يبقى حاله حال عصاة الموحدين . وهذا فيمن لم يصل لله صلاة قط ظاهر .

                                                                                                                                                                                          وقوله: "امتحشوا" أي: احترقوا، وضبطت هذه الكلمة بفتح التاء والحاء . وفي بعض النسخ بضم التاء وكسر الحاء . [ ص: 586 ] و"الحبة" بكسر الحاء، قال الأصمعي : كل نبت له حب فاسم جميع ذلك الحب الحبة، وقال الفراء : الحبة: بذور البقل، وقال أبو عمرو : الحبة نبت ينبت في الحشيش صغار .

                                                                                                                                                                                          وقال الكسائي : الحبة بذر الرياحين، واحدتها حبة، وأما الحنطة فهو الحب لا غير، يعني الفتح .

                                                                                                                                                                                          و"الحميل ": ما حمله السيل من كل شيء، فهو حميل بمعنى محمول . كقتيل بمعنى مقتول .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية