الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 554 ] قوله تعالى: الودود

                                                                                                                                                                                          قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: الودود قال: يقول: "الحبيب " . خرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" . وفي حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره عن أبي هريرة في قصة الإسراء الطويلة في ذكر سدرة المنتهى، قال: "فغشاها نور الخالق وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجرة من حب الله جل ثناؤه " .

                                                                                                                                                                                          قال الجوزجاني: حدثنا أبو صالح أن معاوية حدثه عن يزيد بن ميسرة أنه سمع أبا الدرداء يقول: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: "يا آدم أحبني وحببني إلى خلقي ولا تستطيع ذلك إلا بي ولكني إذا رأيتك حريصا على ذلك أعنتك عليه، فإذا فعلت ذلك فخذ به اللذة والنضرة وقرة العين والطمأنينة .

                                                                                                                                                                                          قال خليد العصري: "يا إخوتاه، هل منكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه; ألا فأحبوا ربكم عز وجل وسيروا إليه سيرا جميلا لا مصعدا ولا مميلا" .

                                                                                                                                                                                          وخرج ابن أبي الدنيا من طريق ابن لهيعة حدثني عبد الحميد بن عبد الله ابن إبراهيم القرشي عن أبيه قال: لما نزل بالعباس بن عبد المطلب الموت قال لابنه عبد الله : "إني موصيك بحب الله وحب طاعته، وخوف الله وخوف معصيته، وإنك إذا كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك " .

                                                                                                                                                                                          قال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا أبو صالح الخراساني، قال: حدثنا [ ص: 555 ] إسحاق بن نجيح عن إسماعيل الكندي قال: جاء رجل من البصرة إلى طاووس ليسمع منه فوافاه مريضا فجلس عند رأسه يبكي . فقال: ما يبكيك؟ قال: "والله ما أبكي على قرابة بيني وبينك ولا على دنيا جئت أطلبها منك، ولكن على العلم الذي جئت أطلبه منك يفوتني " . قال له طاووس : "إني موصيك بثلاث كلمات إن حفظتهن علمت علم الأولين، وعلم الآخرين، وعلم ما كان، وعلم ما يكون: خف الله حتى لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارج الله حتى لا يكون عندك شيء أرجى منه، وأحب الله حتى لا يكون شيء أحب إليك منه " . فإذا فعلت ذلك علمت علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وعلم ما يكون " فقال: "لا جرم لا سألت أحدا بعدك عن شيء بقيت " .

                                                                                                                                                                                          وعن إبراهيم بن الأشعث قال: "سمعت الفضيل بن عياض يقول: مر عيسى عليه السلام بثلاثة من الناس نحلت أجسامهم وتغيرت ألوانهم، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الخوف من النيران . قال: مخلوقا خفتم وحق على الله أن يؤمن الخائف، ثم جاوزهم إلى ثلاثة أخر، فإذا هم أشد تغيرا وأنحل أجساما، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أري؟ قالوا: الشوق إلى الجنة، قال: مخلوقا اشتقتم وحق على الله أن يعطيكم ما رجوتم، ثم جاوزهم إلى ثلاثة أخر فإذا هم أشد تغيرا وأنحل أجساما، كأن على وجوههم المرايا من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: حب الله عز وجل، قال: أنتم المقربون، أنتم المقربون، أنتم المقربون " .

                                                                                                                                                                                          وروى إبراهيم بن الجنيد بإسناده عن كعب قال: أوحى الله إلى موسى [ ص: 556 ] عليه السلام: "إن إبراهيم عليه السلام لم يحبني أحد من خلقي كحبه إياي " .

                                                                                                                                                                                          وعن أبي حازم القيساري قال: مكتوب في الإنجيل: "يا عيسى، الحق والحق أقول: إني أحب إلى عبدي من نفسه التي بين جنبيه " . وعن ابن عيينة عن رجل: عن يحيى بن أبي كثير اليماني، قال: نظرنا فلم نجد شيئا يتلذذ به المتلذذون أفضل من حب الله عز وجل وطلب مرضاته .

                                                                                                                                                                                          وعن سعيد بن عامر عن محمد بن ليث عن بعض أصحابه قال: كان حكيم بن حزام يطوف بالبيت ويقول: لا إله إلا الله، نعم الرب ونعم الإله . أحبه وأخشاه . وعن بكر المزني قال: ما فاق أبو بكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه .

                                                                                                                                                                                          قال إبراهيم: بلغني عن ابن علية أنه قال: في عقيب هذا الحديث: الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل، والنصيحة في خلقه .

                                                                                                                                                                                          قال ابن أبي الدنيا حدثنا هارون بن سفيان حدثنا عبد الله بن صالح أخبرني بعض أهل البصرة، قال: لما استقضى سوار بالبصرة، كتب إليه أخ له كان يطلب العلم معه وكان ببعض الثغور: "أما بعد، أوصيك بتقوى الله الذي جعل التقوى عوضا من كل فائت من الدنيا، ولم يجعل شيئا من الدنيا يكون عوضا من التقوى، فإن التقوى عقدة كل عاقل مستبصر، إليها يستروح، وبها يستن، ولم يظفر أحد في عاجل هذه الدنيا وآجل الآخرة بمثل ما ظفر به أولياء الله الذين شربوا بكأس حبه، فكانت قرة أعينهم فيه، [ ص: 557 ] ولكنهم أعملوا أنفسهم في جسيم الأدب وأراضوها رياضة الأصحاب الصادقين، فطلقوها عن فضول الشهوات وألزموها القوت المقلق، وجعلوا الجوع والعطش شعارا لها برهة من الزمان، حتى انقادت وأذعنت وعزفت لهم عن فضول الحطام، فلما ظعن حب فضول الدنيا من قلوبهم، وزايلتها أهواؤهم وانقطعت أمانيهم وصارت الآخرة نصب أعينهم ومنتهى أملهم . ورث الله قلوبهم نور الحكمة، وقلدها قلائد العصمة، وجعلهم دعاة لمعالم الدين يلمون منه الشعث، ويشعبون منه الصدع . لم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاءهم من الله موعد صادق اختص به العاملين له، والعاملين به دون من سواهم، فإذا سرك أن تسمع صفة الأبرار الأتقياء، فصفة هؤلاء فاستمع، وشمائلهم الطيبة فاتبع، وإياك يا سوار وبنيات الطريق والسلام " .

                                                                                                                                                                                          وخرج أبو نعيم بإسناده عن الربيع بن برة عن الحسن في قوله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة قال: "النفس المؤمنة اطمأنت إلى الله واطمأن إليها، وأحبت لقاء الله، وأحب لقاءها، ورضيت عن الله ورضي عنها، فأمر بقبض روحها، فغفر لها وأدخلها الجنة، وجعلها من عباده الصالحين " .

                                                                                                                                                                                          وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مسمع بن عاصم عن نعيم بن صبيح السعدي قال: "همم الأبرار متصلة بمحبة الرحمن، وقلوبهم تنظر إلى مواضع العز من الآخرة بنور أبصارهم " .

                                                                                                                                                                                          وقال مسمع: سمعت عابدا من أهل البحرين يقول في جوف الليل: "قرة عيني وسرور قلبي، ما الذي أسقطني من عينك يا مانح العصم، ثم صرخ وبكى، ثم نادى: طوبى لقلوب ملأتها خشيتك، واستولت عليها محبتك، فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك، والاجتهاد في خدمتك، [ ص: 558 ] وخشيتك قاطعة لها عن سبيل كل معصية خوفا لحلول سخطك، ثم بكى وقال: يا إخوتاه، ابكوا على فوت خير الآخرة، حيث لا رجعة ولا حيلة .

                                                                                                                                                                                          وبإسناده عن أيوب بن حوط عن قتادة قال: كان في حضرة عتت، شيخ يقال له: سواد بن محمد كان لا يقدر أن يسمع القرآن من شدة خوفه وكان يقول: سيد الأعمال التقوى . ثم البذل، ثم بعد البذل الشكر، ثم بعد الشكر الرضا، ثم بعد الرضا التعظيم، ثم بعد التعظيم الحب لله والإجلال له " . ومعنى هذا أن درجة الحب المستحبة التي ذكرناها في أول الكتاب متأخرة عن درجة الشكر والرضا والتعظيم والبذل . أما الواجبة فإنها تدخل في التقوى كما سبق بيانه .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية