الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          واعلم أن المسكين إذا أطلق يراد به غالبا من لا مال له يكفيه، فإن الحاجة توجب السكون والتواضع بخلاف الغنى فإنه يوجب الطغيان، ولهذا ذم الفقير المختال وعظم وعيده; لأنه عصى بما ينافي فقره وهو الاختيال والزهو والكبر، ولما كان المسكين عند الإطلاق لا ينصرف إلا إلى من لا كفاية له من المال وصى الله تعالى بإيثار المساكين وإطعامهم الطعام، ومدح من يطعمهم، وذم من لا يحض على إطعامهم، وجعل لهم حقا في أموال الصدقات والفيء وخمس الغنائم وحضور قسمة الأموال .

                                                                                                                                                                                          وهؤلاء المساكين على قسمين:

                                                                                                                                                                                          أحدهما: من هو محتاج في الباطن وقد أظهر حاجته للناس .

                                                                                                                                                                                          والثاني: من يكتم حاجته ويظهر للناس أنه غني فهذا أشرف القسمين، وقد مدح الله عز وجل هذا في قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين من لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه " وقال بعضهم: هذا المحروم المذكور في قوله عز وجل: للسائل والمحروم فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من كتم حاجته فلم يفطن له أحق باسم المسكين من [ ص: 199 ] الذي أظهر حاجته بالسؤال وأنه أحق بالبر منه وهذا يدل على أنهم كانوا لا يعرفون من المساكين إلا من أظهر حاجته بالسؤال، وبهذا فرق طائفة من العلماء بين الفقير والمسكين فقالوا: من أظهر حاجته فهو مسكين ومن كتمها فهو فقير، وفي كلام الإمام أحمد إيماء إلى ذلك وإن كان المشهور عنه أن التفريق بينهما بكثرة الحاجة وقلتها كقول كثير من الفقهاء .

                                                                                                                                                                                          وهذا حيث جمع بين ذكر الفقير والمسكين كما في آية الصدقات، فأما إذا أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر عند الأكثرين، وقد كان كثير من السلف يكتم حاجته ويظهر الغنى تعففا وتكرما، منهم إبراهيم النخعي كان يلبس ثيابا حسناء ويخرج إلى الناس وهم يرون أنه تحل له الميتة من الحاجة .

                                                                                                                                                                                          كان بعض الصالحين يلبس الثياب الجميلة وفي كمه مفتاح دار كبيرة ولا مأوى له إلا المساجد، وكان آخر لا يلبس جبة في الشتاء لفقره ويقول: بي علة تمنعني من لبس المحشو وإنما يعني بها الفقر - شعر :


                                                                                                                                                                                          إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنيا وهو مجهود



                                                                                                                                                                                          وكان بعكس هؤلاء من يلبس ثياب المساكين مع الغنى تواضعا لله عز وجل وبعدا من الكبر كما كان يفعله الخلفاء الراشدون الأربعة وبعدهم عمر بن عبد العزيز، وكذلك كان جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما - رضي الله عنهم - . وروي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان ينشد:


                                                                                                                                                                                          إذا أردت شريف الناس كلهم     فانظر إلى ملك في زي مسكين
                                                                                                                                                                                          ذاك الذي حسنت في الناس سيرته     وذاك يصلح للدنيا وللدين



                                                                                                                                                                                          وكان علي - رضي الله عنه - يعاتب على لباسه فيقول: هو أبعد عن الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم . وعوتب عمر بن عبد العزيز على ذلك فقال: إن أفضل [ ص: 200 ] القصد عند الجدة، يعني أفضل ما اقتصد الرجل في لباسه مع قدرته ووجدانه .

                                                                                                                                                                                          وفي "سنن أبي داود" وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "البذاذة من الإيمان " يعني: التقشف .

                                                                                                                                                                                          وفي الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من ترك اللباس تواضعا لله عز وجل وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة حتى يخيره من أي حلل الجنة شاء يلبسها" وخرجه أبو داود من وجه آخر ولفظه: "من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه - أحسبه قال: تواضعا - كساه الله حلة الكرامة" .

                                                                                                                                                                                          وإنما يذم من ترك اللباس مع قدرته عليه بخلا على نفسه أو كتمانا لنعمة الله عز وجل وفي هذا جاء الحديث المشهور: "إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته على عبده " ومن لبس لباسا حسنا إظهارا لنعمة الله ولم يفعله اختيالا كان حسنا . وكان كثير من الصحابة والتابعين يلبسون لباسا حسنا، منهم: ابن عباس . والحسن البصري، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الرجل يحب أن يكون لباسه حسنا ونعله حسنا، قال: "ليس ذلك بالكبر، إنما الكبر بطر الحق وغمط الناس " يعني التكبر عن قبول الحق والانقياد له واحتقار الناس وازدراءهم فهذا هو الكبر وأما مجرد اللباس الحسن الخالي عن الخيلاء فليس [ ص: 201 ] بكبر، واحتقار الناس مع رثاثة اللباس كبر .

                                                                                                                                                                                          وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ماشيا في طريق وهناك أمة سوداء، فقال لها رجل: الطريق الطريق للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: الطريق يمنة ويسرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها فإنها جبارة" خرجه النسائي وغيره، وفي رواية الطبراني قالوا: يا رسول الله إنها يعني مسكينة، قال: "إن ذاك في قلبها" يعني أن الكبر في قلبها وإن كان لباسها لباس المساكين .

                                                                                                                                                                                          وقال الحسن: إن قوما جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في صدورهم إن أحدهم أشد كبرا بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المنبر بمنبره،

                                                                                                                                                                                          قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي سليمان بن أبي سليمان وكان يعدل بأبيه: أي شيء أرادوا بثياب الصوف؟ قلت: التواضع، قال: وما يتكبر أحدهم إلا إذا لبس الصوف؟ وقال أبو سليمان: يكون ظاهرك قطنيا وباطنك صوفيا . وقال أبو الحسين ابن بشار: صوف قلبك والبس القوهي على القوهي يعني رفيع الثياب، فمتى أظهر الإنسان لباس المساكين لدعوى الصلاح ليشتهر بذلك عند الناس كان ذلك كبرا ورياء، ومن هنا ترك كثير من السلف المخلصين اللباس المختص بالفقراء والصالحين وقالوا: إنه شهرة، ولما قدم سيار أبو الحكم البصرة لزيارة مالك بن دينار، لبس ثيابا حسنة ثم دخل المسجد فصلى صلاة حسنة فرآه مالك ولم يعرفه فقال له: يا شيخ إني أرغب بك عن هذه الثياب مع هذه الصلاة، فقال له: يا مالك ثيابي هذه تضعني عندك أم ترفعني؟ قال: بل [ ص: 202 ] تضعك، فقال: نعم الثوب ثوب يضع صاحبه عند الناس، ولكن انظر يا مالك لعل ثوبيك هذين يعني الصوف أنزلاك عند الناس ما لم ينزلاك من الله، فبكى مالك وقام إليه واعتنقه وقال له: أنشدك الله أنت سيار أبو الحكم؟ قال: نعم . فلهذا كره من كره من السلف كابن سيرين وغيره لباس الصوف حيث صار شعار الزاهدين فيكون لباسه إشهارا للنفس وإظهارا للزهد، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يلبس لباس الأغنياء من حلل اليمن وثياب الشام ونحوها، وتارة يلبس لباس المساكين، فيلبس جبة من صوف أحيانا وأحيانا يتزر بعباءة، ويهيئ إبل الصدقة بيده يعني أنه يطليها بيده ويصلحها كما يفعل أرباب الإبل بها، ولم يبعث الله نبيا من أهل الكبر، وإنما يبعث من لا كبر عنده ولا يتكبر عن معالجة الأشياء التي يأنف منها المتكبرون كرعاية الإبل والغنم، وإجارة نفسه عند الحاجة إلى الاكتساب، ومن أعطاه الله منهم ملكا فإنه لم يزل دأبه التواضع لله عز وجل كداود وسليمان ومحمد صلى الله عليهم وسلم تسليما كثيرا . وقد يطلق اسم المسكين ويراد به من استكان قلبه لله عز وجل وانكسر له وتواضع لجلاله وكبريائه وعظمته وخشيته ومحبته ومهابته، وعلى هذا المعنى حمل بعضهم الحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين " خرجه الترمذي من حديث أنس وخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس، وفي حمله على ذلك نظر; لأن [ ص: 203 ] في تمام حديثيهما ما يدل على أن المراد به المساكين من المال; لأنه ذكر سبقهم الأغنياء إلى الجنة مع أن في إسناد الحديثين ضعفا، وقد خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا فأشار إليه جبريل أن تواضع، فقال: بل عبدا رسولا، وكان بعد ذلك لا يأكل متكئا ويقول: "آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد" .

                                                                                                                                                                                          قال الحسن: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فأعطاني الله لذلك أن جعلني سيد ولد آدم وأول شافع وأول مشفع وأول من تنشق عنه الأرض " وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " فأشرف أسمائه عبد الله ولهذا سمي بهذا الاسم في القرآن في أفخر مقاماته، فلما حقق - صلى الله عليه وسلم - عبوديته لربه حصلت له السيادة على جميع الخلق .

                                                                                                                                                                                          كان كثير من العارفين يقول في مناجاته لربه: كفى بي فخرا أني لك عبد وكفى بي شرفا أنك لي رب . وكان بعضهم يقول: كلما ذكرت أنه ربي وأنا عبده حصل لي من السرور ما يصلح به بدني:


                                                                                                                                                                                          شرف النفوس دخولها في رقهم     والعبد يحوي الفخر بالمتملك



                                                                                                                                                                                          وكان أبو يزيد البسطامي ينشد:

                                                                                                                                                                                          يا ليتني صرت شيئا     من غير شيء أعد
                                                                                                                                                                                          أصبحت للكل مولى     لأنني لك عبد



                                                                                                                                                                                          [ ص: 204 ] فمن انكسر قلبه لله عز وجل واستكان وخشع وتواضع جبره الله عز وجل ورفعه بقدر ذلك، وفي الأثر المشهور أن الله عز وجل قال لموسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام حين سأله أين أجدك؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم كل يوم باعا ولولا ذلك انهدموا .

                                                                                                                                                                                          وروي عن عبد الله بن سلام أنه فسره فقال: هم المنكسرة قلوبهم بحب الله عن حب غيره، وفي الحديث المشهور المرفوع: "أن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له " فإذا تجلى لقلوب العارفين عظمة الله وجلاله وكبرياؤه اندكت قلوبهم من هيبته وخشعت وانكسرت من محبته ومخافته:

                                                                                                                                                                                          مساكين أهل الحب حتى قبورهم     عليها تراب الذل بين المقابر



                                                                                                                                                                                          فالمسكين في الحقيقة من استكان قلبه لربه وخشع من خشيته ولا يكون المسكين ممدوحا بدون هذه الصفة، فإن من لم يخشع قلبه مع فقره وحاجته فهو جبار كتلك الأمة السوداء التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنها جبارة" وهو إما عائل مستكبر أو فقير مختال، وكلاهما لا ينظر الله إليه يوم القيامة، فالمؤمن من يستكين قلبه لربه ويخشع له ويتواضع ويظهر مسكنته وفاقته إليه في الشدة والرخاء، أما في حال الرخاء فإظهار الذل والعبودية والفاقة والحاجة إلى كشف الضر قال تعالى: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون فذم من لا يستكين لربه عند الشدة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج عند الاستسقاء متخشعا متمسكنا . وحبس لمطرف بن عبد الله قريب له لبس خلقان ثيابه، وأخذ بيده قصبة [ ص: 205 ] وقال: أتمسكن لربي لعله يشفعني فيه .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية