[ ص: 233 ] فصل
فاعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=30504الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين :
أحدهما : الخوف من الانقطاع من الطريق ، وبغض العبادة ، وكراهة التكليف ، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله .
والثاني : خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع ، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق ، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها ، وقاطعا بالمكلف دونها ، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء; فانقطع عنهما .
فأما الأول ; فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة ، حفظ فيها على الخلق قلوبهم ، وحببها لهم بذلك ، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة; لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم ، ألا ترى إلى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] إلى آخرها; فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله ، وزينه في قلوبنا بذلك ، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه .
[ ص: 234 ] وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337516عليكم من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا .
وفي حديث قيام رمضان :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337517أما بعد; فإنه لم يخف علي شأنكم ، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها .
وفي حديث
الحولاء بنت تويت حين قالت له
عائشة - رضي الله عنها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337518هذه الحولاء بنت تويت ، زعموا أنها لا تنام الليل . فقال عليه الصلاة والسلام : لا تنام الليل ؟ ! خذوا من العمل ما تطيقون; فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .
وحديث
أنس :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337519دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وحبل ممدود بين ساريتين; [ ص: 235 ] فقال : " ما هذا ؟ " ، قالوا : حبل لزينب ، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به . فقال : حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر; قعد .
وحديث
معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337461أفتان أنت يا معاذ ؟ حين أطال الصلاة بالناس ، وقال : إن منكم منفرين; فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز; فإن فيهم الضعيف ، والكبير ، وذا الحاجة .
ونهى عن الوصال رحمة لهم .
ونهى عن النذر ، وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337520إن الله يستخرج به من البخيل ، وإنه لا يغني من قدر الله شيئا .
أو كما قال ، لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه
[ ص: 236 ] ما تقدم من السآمة والملل ، والعجز ، وبغض الطاعة وكراهيتها .
وقد جاء عن
عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337521إن هذا الدين متين; فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى .
[ ص: 237 ] [ ص: 238 ] [ ص: 239 ] وقالت
عائشة رضي الله عنها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337522نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم . قالوا : إنك تواصل . فقال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .
وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع ، وإذا كان كذلك; فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما ، فإذا وجد ما علل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان النهي متوجها ومتجها ، وإذا لم توجد; فالنهي مفقود ، إذ الناس في هذا الميدان على ضربين :
ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد; فتؤثر فيه أو في غيره فسادا ، أو تحدث له ضجرا ومللا ، وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل; كما هو الغالب في المكلفين; فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك ، بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص ، إن كان مما لا يجوز تركه ، أو يتركه إن كان مما له تركه ، وهو مقتضى التعليل ، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337515لا يقض القاضي وهو غضبان ، وقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337523إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، وهو
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337524الذي أشار به عليه [ ص: 240 ] الصلاة والسلام على nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم ، وقد قال بعد الكبر : ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل ، لوازع هو أشد من المشقة ، أو حاد يسهل به الصعب ، أو لما له في العمل من المحبة ، ولما حصل له فيه من اللذة ، حتى خف عليه ما ثقل على غيره ، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة ، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة ، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره; كما جاء في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337525أرحنا بها يا بلال .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337526حبب إلي من دنياكم ثلاث ، قال : وجعلت قرة عيني في الصلاة .
[ ص: 241 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=10337527وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ! .
وقيل له عليه الصلاة والسلام :
أنأخذ عنك في الغضب والرضى ؟ قال : نعم .
[ ص: 242 ] وهو القائل في حقنا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337344لا يقضي القاضي وهو غضبان " ، وهذا وإن كان خاصا به; فالدليل صحيح .
وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير .
ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضي الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد;
كعمر ،
وعثمان ،
nindex.php?page=showalam&ids=110وأبي موسى الأشعري ،
nindex.php?page=showalam&ids=15994وسعيد بن عامر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16414وعبد الله بن الزبير; ومن التابعين ،
nindex.php?page=showalam&ids=16284كعامر بن عبد قيس ،
وأويس ،
ومسروق ،
nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب ،
nindex.php?page=showalam&ids=13705والأسود بن يزيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=14355والربيع بن خثيم ،
nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ،
وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش ،
وكمنصور بن زاذان ،
nindex.php?page=showalam&ids=17376ويزيد بن هارون ،
وهشيم ،
nindex.php?page=showalam&ids=15916وزر بن حبيش ،
nindex.php?page=showalam&ids=12067وأبي عبد الرحمن السلمي ، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم ، وهم من اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم .
ومما جاء عن
عثمان - رضي الله عنه - أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله .
[ ص: 243 ] وكم من رجل منهم صلى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنة ، وسرد الصيام كذا وكذا سنة .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام ، وأجاز
مالك nindex.php?page=treesubj&link=2476صيام الدهر .
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=12338أويس القرني يقوم ليلة حتى يصبح ، ويقول : بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا .
[ ص: 244 ] ونحوه عن
عبد الله بن الزبير .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13705الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة ، حتى يخضر جسده ويصفر ، فكان
علقمة يقول له : ويحك ! لم تعذب هذا الجسد ؟ فيقول : إن الأمر جد ، إن الأمر جد .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12336أنس بن سيرين أن امرأة
مسروق قالت : كان يصلي حتى تورمت قدماه ، فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي ; قال غشي على
مسروق في يوم صائف وهو صائم ، فقالت له ابنته : أفطر ! قال : ما أردت بي ؟ قالت : الرفق . قال : يا بنية ! إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
إلى سائر ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم ، ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة ، بل كانوا معدودين في السابقين ، جعلنا الله منهم ، وذلك لأن العلة التي لأجلها نهي عن العمل الشاق مفقودة في حقهم; فلم ينتهض النهي في حقهم ، كما أنه لما
[ ص: 245 ] قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337515لا يقض القاضي وهو غضبان " ، وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطرد النهي مع كل ما يشوش الفكر ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يشوش ، وهذا صحيح مليح .
فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد ، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة ، فالخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة تيار حامل ، فالخائف يعمل مع وجود المشقة ، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا ، والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا ، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب ، فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد ، ويفنى القوي ، ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ، ولا قام بشكر النعمة ، ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته ، وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان ، ويرخص له فيه إن كان لازما له ، حتى لا يحصل في مشقة ذلك; لأن فيه تشويش النفس كما تقدم .
ولكن العمل الحاصل - والحالة هذه - هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله ؟
هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة " الصلاة في الدار المغصوبة " ، وقد نقل منع
nindex.php?page=treesubj&link=2533الصوم إذا خاف التلف به عن
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وأنه لا يجزئه إن فعل ، ونقل المنع في الطهارة عند خوف التلف ، والانتقال إلى التيمم ، وفي خوف المرض أو تلف المال احتمال ، والشاهد للمنع قوله
[ ص: 246 ] تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] ، وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف ، لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات ، فالأمران مفترقان ، فإن إدخال المشقة الفادحة على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة ، والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة; فصارت ذات قولين .
وأيضا; فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى ، وهي أن يقال هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله ، أم لأجل أنها حق للعبد ؟ فإن قلنا : إنها حق لله ، فيتجه المنع حيث وجهه الشارع ، وقد رفع الحرج في الدين ، فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع ، وإن قلنا إنه حق للعبد ، فإذا سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة .
والذي يرجح هذا الثاني أمور :
منها : أن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] ، وقد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد; لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ، يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم لأنه أرفق بهم ، وأيضا; فقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] وأشباهها من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد .
ومنها : ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإرادة اليسر; فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحرج والعسر ، فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي ، ومما يخص مسألتنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه ، أو تورمت قدماه ، والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد ، ولكن المر في طاعة
[ ص: 247 ] الله يحلو للمحبين ، وهو عليه الصلاة والسلام كان إمامهم ، وكذلك جاء عن السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم ، وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14120الحسن بن عرفة; قال : رأيت
nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون بواسط ، وهو من أحسن الناس عينين ، ثم رأيته بعين واحدة ، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه ، فقلت له : يا
أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان ؟ فقال : ذهب بهما بكاء الأسحار .
وما تقدم في احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى ، فإذا من غلب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق ، ومن غلب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق ، ولكن جعل ذلك إلى خيرته .
[ ص: 233 ] فَصْلٌ
فَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30504الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الْخَوْفُ مِنَ الِانْقِطَاعِ مِنَ الطَّرِيقِ ، وَبُغْضِ الْعِبَادَةِ ، وَكَرَاهَةِ التَّكْلِيفِ ، وَيَنْتَظِمُ تَحْتَ هَذَا الْمَعْنَى الْخَوْفُ مِنْ إِدْخَالِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حَالِهِ .
وَالثَّانِي : خَوْفُ التَّقْصِيرِ عِنْدَ مُزَاحَمَةِ الْوَظَائِفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَبْدِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ ، مِثْلِ قِيَامِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ إِلَى تَكَالِيفَ أُخَرَ تَأْتِي فِي الطَّرِيقِ ، فَرُبَّمَا كَانَ التَّوَغُّلُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ شَاغِلًا عَنْهَا ، وَقَاطِعًا بِالْمُكَلَّفِ دُونَهَا ، وَرُبَّمَا أَرَادَ الْحَمْلَ لِلطَّرَفَيْنِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِقْصَاءِ; فَانْقَطَعَ عَنْهُمَا .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ ; فَإِنَّ اللَّهَ وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً سَهْلَةً ، حَفِظَ فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ قُلُوبَهُمْ ، وَحَبَّبَهَا لَهُمْ بِذَلِكَ ، فَلَوْ عَمِلُوا عَلَى خِلَافِ السَّمَاحِ وَالسُّهُولَةِ; لَدَخَلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا كُلِّفُوا بِهِ مَا لَا تَخْلُصُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [ الْحُجُرَاتِ : 7 ] إِلَى آخِرِهَا; فَقَدْ أَخْبَرَتِ الْآيَةُ أَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْهِيلِهِ ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنَا بِذَلِكَ ، وَبِالْوَعْدِ الصَّادِقِ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ .
[ ص: 234 ] وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337516عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا .
وَفِي حَدِيثِ قِيَامِ رَمَضَانَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337517أَمَّا بَعْدُ; فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا .
وَفِي حَدِيثِ
الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ حِينَ قَالَتْ لَهُ
عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337518هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ ، زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ . فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا تَنَامُ اللَّيْلَ ؟ ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ; فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا .
وَحَدِيثِ
أَنَسٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337519دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ; [ ص: 235 ] فَقَالَ : " مَا هَذَا ؟ " ، قَالُوا : حَبْلٌ لِزَيْنَبَ ، تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ . فَقَالَ : حُلُّوهُ ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ; قَعَدَ .
وَحَدِيثِ
مُعَاذٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337461أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِالنَّاسِ ، وَقَالَ : إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ; فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ; فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ ، وَالْكَبِيرَ ، وَذَا الْحَاجَةِ .
وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ .
وَنَهَى عَنِ النَّذْرِ ، وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337520إِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ، وَإِنَّهُ لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا .
أَوْ كَمَا قَالَ ، لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُعَلَّلٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ
[ ص: 236 ] مَا تَقَدَّمَ مِنَ السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ ، وَالْعَجْزِ ، وَبُغْضِ الطَّاعَةِ وَكَرَاهِيَتِهَا .
وَقَدْ جَاءَ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337521إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ; فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ ، وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى .
[ ص: 237 ] [ ص: 238 ] [ ص: 239 ] وَقَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337522نَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ . قَالُوا : إِنَّكَ تُوَاصِلُ . فَقَالَ : إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي .
وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّهْيَ لِعِلَّةٍ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; فَالنَّهْيُ دَائِرٌ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا ، فَإِذَا وُجِدَ مَا عَلَّلَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا وَمُتَّجِهًا ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ; فَالنَّهْيُ مَفْقُودٌ ، إِذِ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
ضَرْبٌ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ إِدْخَالِ نَفْسِهِ فِي الْعَمَلِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ; فَتُؤَثِّرُ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَسَادًا ، أَوْ تُحْدِثُ لَهُ ضَجَرًا وَمَلَلًا ، وَقُعُودًا عَنِ النَّشَاطِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ; كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْمُكَلَّفِينَ; فَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَكِبَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا فِيهِ ذَلِكَ ، بَلْ يَتَرَخَّصُ فِيهِ بِحَسَبِ مَا شُرِعَ لَهُ فِي التَّرَخُّصِ ، إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ، أَوْ يَتْرُكُهُ إِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ تَرْكُهُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337515لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337523إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَهُوَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337524الَّذِي أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ [ ص: 240 ] الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ يَسْرُدُ الصَّوْمَ ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ الْكِبَرِ : لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي شَأْنُهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَلَلُ وَلَا الْكَسَلُ ، لِوَازِعٍ هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْمَشَقَّةِ ، أَوْ حَادٌّ يَسْهُلُ بِهِ الصَّعْبُ ، أَوْ لِمَا لَهُ فِي الْعَمَلِ مِنَ الْمَحَبَّةِ ، وَلِمَا حَصَلَ لَهُ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ ، حَتَّى خَفَّ عَلَيْهِ مَا ثَقُلَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَصَارَتْ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ فِي حَقِّهِ غَيْرَ مَشَقَّةٍ ، بَلْ يَزِيدُهُ كَثْرَةُ الْعَمَلِ وَكَثْرَةُ الْعَنَاءِ فِيهِ نُورًا وَرَاحَةً ، أَوْ يُحْفَظُ عَنْ تَأْثِيرِ ذَلِكَ الْمُشَوِّشِ فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337525أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337526حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ ، قَالَ : وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ .
[ ص: 241 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=10337527وَقَالَ لَمَّا قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَوْ تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟ ! .
وَقِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
أَنَأْخَذُ عَنْكَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى ؟ قَالَ : نَعَمْ .
[ ص: 242 ] وَهُوَ الْقَائِلُ فِي حَقِّنَا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337344لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ " ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ; فَالدَّلِيلُ صَحِيحٌ .
وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي الْأَعْمَالِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا دَائِمًا كَثِيرٌ .
وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَّنِ اشْتَهَرَ بِالْعِلْمِ وَحَمْلِ الْحَدِيثِ وَالِاقْتِدَاءِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ;
كَعُمَرَ ،
وَعُثْمَانَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=110وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15994وَسَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16414وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ; وَمِنَ التَّابِعِينَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16284كَعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ ،
وَأُوَيْسٍ ،
وَمَسْرُوقٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15990وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13705وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14355وَالرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16561وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ،
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَاهِبِ قُرَيْشٍ ،
وَكَمَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=17376وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ ،
وَهُشَيْمٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15916وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12067وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ ، وَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مَا هُمْ .
وَمِمَّا جَاءَ عَنْ
عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ كُلَّهُ .
[ ص: 243 ] وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ صَلَّى الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ ، وَسَرَدَ الصِّيَامَ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ .
وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يُوَاصِلَانِ الصِّيَامَ ، وَأَجَازَ
مَالِكٌ nindex.php?page=treesubj&link=2476صِيَامَ الدَّهْرِ .
وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=12338أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ يَقُومُ لَيْلَةً حَتَّى يُصْبِحَ ، وَيَقُولُ : بَلَغَنِي أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا سُجُودًا أَبَدًا .
[ ص: 244 ] وَنَحْوُهُ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13705الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ ، حَتَّى يَخْضَرَّ جَسَدُهُ وَيَصْفَرَّ ، فَكَانَ
عَلْقَمَةُ يَقُولُ لَهُ : وَيْحَكَ ! لِمَ تُعَذِّبُ هَذَا الْجَسَدَ ؟ فَيَقُولُ : إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ ، إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12336أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ امْرَأَةَ
مَسْرُوقٍ قَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ ، فَرُبَّمَا جَلَسْتُ أَبْكِي خَلْفَهُ مِمَّا أَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشَّعْبِيِّ ; قَالَ غُشِيَ عَلَى
مَسْرُوقٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ : أَفْطِرْ ! قَالَ : مَا أَرَدْتِ بِي ؟ قَالَتِ : الرِّفْقَ . قَالَ : يَا بُنَيَّةُ ! إِنَّمَا طَلَبْتُ الرِّفْقَ لِنَفْسِي فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ .
إِلَى سَائِرِ مَا ذُكِرَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ لَهَا وَهَيَّأَهَا لَهُمْ وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ ، بَلْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي السَّابِقَيْنِ ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُهِيَ عَنِ الْعَمَلِ الشَّاقِّ مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ; فَلَمْ يُنْتَهِضِ النَّهْيُ فِي حَقِّهِمْ ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا
[ ص: 245 ] قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337515لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ " ، وَكَانَ وَجْهُ النَّهْيِ وَعِلَّتُهُ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ اطَّرَدَ النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ ، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ مُنْتَفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُشَوِّشُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ مَلِيحٌ .
فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ وَعَقْدِ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ ، وَالثَّانِي حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ أَوِ الْمَحَبَّةِ ، فَالْخَوْفُ سَوْطٌ سَائِقٌ ، وَالرَّجَاءُ حَادٌّ قَائِدٌ ، وَالْمَحَبَّةُ تَيَّارٌ حَامِلٌ ، فَالْخَائِفُ يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ ، غَيْرَ أَنَّ الْخَوْفَ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا هُوَ أَهْوَنُ وَإِنْ كَانَ شَاقًّا ، وَالرَّاجِي يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ أَيْضًا ، غَيْرَ أَنَّ الرَّجَاءَ فِي تَمَامِ الرَّاحَةِ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى تَمَامِ التَّعَبِ ، وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ شَوْقًا إِلَى الْمَحْبُوبِ ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ ، وَيَفْنَى الْقَوِيُّ ، وَلَا يَرَى أَنَّهُ أَوْفَى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ ، وَلَا قَامَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ ، وَيُعَمِّرُ الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنَّهُ قَضَى نَهْمَتَهُ ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ الْمُسَبِّبِ لِذَلِكَ إِنْ كَانَ لِخَيْرَةِ الْإِنْسَانِ ، وَيُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ إِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ ، حَتَّى لَا يَحْصُلَ فِي مَشَقَّةِ ذَلِكَ; لِأَنَّ فِيهِ تَشْوِيشَ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلَكِنَّ الْعَمَلَ الْحَاصِلَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - هَلْ يَكُونُ مُجَزِئًا أَمْ لَا إِذَا خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ عَقْلِهِ ؟
هَذَا مِمَّا فِيهِ نَظَرٌ يُطَّلَعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِيهِ مِنْ قَاعِدَةِ " الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ " ، وَقَدْ نُقِلَ مَنْعُ
nindex.php?page=treesubj&link=2533الصَّوْمِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ بِهِ عَنْ
مَالِكٍ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَنَّهُ لَا يُجَزِئُهُ إِنْ فَعَلَ ، وَنُقِلَ الْمَنْعُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ ، وَالِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ ، وَفِي خَوْفِ الْمَرَضِ أَوْ تَلَفِ الْمَالِ احْتِمَالٌ ، وَالشَّاهِدُ لِلْمَنْعِ قَوْلُهُ
[ ص: 246 ] تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] ، وَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ ، لَا مِنْ جِهَةِ إِيقَاعِ نَفْسِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ ، فَالْأَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ ، فَإِنَّ إِدْخَالَ الْمَشَقَّةِ الْفَادِحَةِ عَلَى النَّفْسِ يُعْقَلُ النَّهْيُ عَنْهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ يُعْقَلُ الْأَمْرُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الْمَشَقَّةِ; فَصَارَتْ ذَاتَ قَوْلَيْنِ .
وَأَيْضًا; فَيَدْخُلُ فِيهَا النَّظَرُ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ هَلْ قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعَ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ ، أَمْ لِأَجْلِ أَنَّهَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ ، فَيَتَّجِهُ الْمَنْعُ حَيْثُ وَجَّهَهُ الشَّارِعُ ، وَقَدْ رَفَعَ الْحَرَجَ فِي الدِّينِ ، فَالدُّخُولُ فِيمَا فِيهِ الْحَرَجُ مُضَادٌّ لِذَلِكَ الرَّفْعِ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ ، فَإِذَا سَمَحَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ بِحَظِّهِ كَانَتْ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً وَلَمْ يَتَمَحَّضِ النَّهْيُ عَنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ .
وَالَّذِي يُرَجِّحُ هَذَا الثَّانِيَ أُمُورٌ :
مِنْهَا : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] ، وَقَدْ دَلَّ بِإِشَارَتِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرِّفْقِ بِالْعِبَادِ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [ النِّسَاءِ : 29 ] ، يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِمْ ، وَأَيْضًا; فَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ : 107 ] وَأَشْبَاهُهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ .
وَمِنْهَا : مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ; فَإِنَّمَا يَكُونُ النَّهْيُ مُنْتَهِضًا مَعَ فَرْضِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ ، فَإِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ ارْتَفَعَ النَّهْيُ ، وَمِمَّا يَخُصُّ مَسْأَلَتَنَا قِيَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ ، أَوْ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ ، وَالْعِبَادَةُ إِذَا صَارَتْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ شَقَّتْ وَلَا بُدَّ ، وَلَكِنَّ الْمُرَّ فِي طَاعَةِ
[ ص: 247 ] اللَّهِ يَحْلُو لِلْمُحِبِّينَ ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِمَامَهُمْ ، وَكَذَلِكَ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ تَرْدَادُ الْبُكَاءِ حَتَّى عَمِيَتْ أَعْيُنُهُمْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14120الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ; قَالَ : رَأَيْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=17376يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِوَاسِطٍ ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ عَيْنَيْنِ ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ وَقَدْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا
أَبَا خَالِدٍ مَا فَعَلَتِ الْعَيْنَانِ الْجَمِيلَتَانِ ؟ فَقَالَ : ذَهَبَ بِهِمَا بُكَاءُ الْأَسْحَارِ .
وَمَا تَقَدَّمَ فِي احْتِمَالِ مُطْلَقِ الْمَشَقَّةِ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَاضِدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى ، فَإِذًا مَنْ غَلَّبَ جَانِبَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنَعَ بِإِطْلَاقٍ ، وَمَنْ غَلَّبَ جَانِبَ حَقِّ الْعَبْدِ لَمْ يَمْنَعْ بِإِطْلَاقٍ ، وَلَكِنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَى خِيَرَتِهِ .