الطرف الثالث : في اجتماع السبب والمباشرة ، أو الشرط .
أما الشرط والمباشرة إذا اجتمعا ، فالقصاص والدية يتعلقان بالمباشرة فقط ، فلو دون الحافر ، ولو حفر بئرا في محل عدوان أو غيره ، فردى رجل فيها شخصا ، فالضمان على المردي ، ولا شيء على الممسك ، إلا أنه يأثم إذا أمسكه للقتل ، ويعزر . أمسك رجلا ، فقتله آخر ، فالضمان على القاتل
هذا في الحر ، أما لو كان المقتول عبدا ، فيطالب الممسك بالضمان باليد والقرار على القاتل ، ولو ، وتتوجه المطالبة على الممسك ، هذا هو المذهب ، وفيه خلاف سبق في الحج . أمسك محرم صيدا ، فقتله محرم آخر ، فقرار الضمان على القاتل
ولو ، فالرامي كالحافر ، والمقدم كالمردي ، فعليه القصاص ، أما إذا اجتمع السبب والمباشرة فهو ثلاثة أضرب : قدم صبيا إلى هدف ، فأصابه سهم كان أرسله الرامي قبل تقديم الصبي ، فقتله
أحدها : أن يغلب السبب المباشرة ، بأن أخرجها عن كونها عدوانا مع توليده لها ، مثل أن شهدوا عليه بما يوجب الحد ، فقتله القاضي ، أو جلاده ، أو بما يوجب القصاص ، فقتله الولي أو وكيله ، فالقصاص على الشهود ، دون القاضي والولي ونائبهما .
الضرب الثاني : أن يصير السبب مغلوبا ، بأن ، فالقصاص على القاد ، ولا شيء على الملقي ، سواء عرف الحال أم لا . رماه من شاهق ، فتلقاه رجل بسيف ، فقده نصفين ، أو ضرب رقبته قبل وصوله الأرض
وفي وجه : يجب عليه الضمان بالمال ، لا بالقصاص ، والصحيح : الأول .
ولو ، فعلى الملقي القصاص [ ص: 134 ] على الصحيح المنصوص ، وخرج ألقاه في ماء مغرق ، كلجة بحر ، فالتقمه حوت الربيع قولا : إنه لا قصاص ، لكن تجب دية مغلظة ، وقيل : إن التقمه الحوت قبل الوصول إلى الماء ، فلا قصاص ، كمسألة القاد ، وإلا فيجب ، والصحيح أنه لا فرق ، وفي كلام الشيخ أبي حامد وغيره من العراقيين ، ما يشعر بأن القولين في الالتقام قبل وصوله الماء ، والقطع بوجوب القصاص إذا كان بعده .
وفرق الإمام بين مسألة القد والالتقام ، بأن القد قتل صدر من فاعل مختار بفعل وروية ، فيقطع أثر السبب الأول ، والحوت يلتقم بطبعه كالسبع الضاري ، فلم يقطع أثر السبب الأول ، ولذلك قلنا : لو أمسكه ، فقتله آخر ، فالقصاص على القاتل دون الممسك .
ولو أمسكه وهدفه لوثبة سبع ضار ، فافترسه ، فالقصاص على الممسك ، لأن الحيوان الضاري يفعل بطبعه عند التمكن ، وكأنه آلة لصاحب السبب الأول نازل منزلة ما لو . ألقاه في بئر وكان في سفلها نصل منصوب فمات به
فالقصاص على الملقي ، بخلاف ما إذا كان الطارئ فعل صاحب رأي ، فإنه يبعد تنزيله منزلة الآلة ، وبني على هذا أنه لو كان في سفل البئر حية عادية بطبعها ، أو نمر ضار ، فقتله ، وجب القصاص على المردي ، ولو كان هناك مجنون ضار على طبع السباع ، فكذلك .
وإن لم يكن ضاريا ، كان كالعاقل في إسقاط الضمان عن المردي ، فلم يجعل الهلاك الحاصل بالسبع الضاري كالتلقي بالسيف ، وأطلق البغوي نفي الضمان إذا افترسه السبع قبل أن يصل إلى الأرض .
ولا فرق في مسألة القد ، بين أن يكون القاد ممن يضمن أو ممن لا يضمن ، كالحربي ، ولو رفع الحوت رأسه ، فألقمه فاه ، لزمه القصاص بلا خلاف .
ولو ، فلا قصاص قطعا ، لأنه لم يقصد إهلاكه ، ولم يشعر بسبب الهلاك ، فأشبه ما لو دفع رجلا دفعا خفيفا ، فألقاه ، فجرحه بسكين كان هناك لم يعلم به الدافع ، [ ص: 135 ] فلا قصاص ، ولكن تجب في الصورتين دية شبه العمد ، كذا ذكره ألقاه في ماء غير مغرق ، فالتقمه حوت ابن الصباغ والبغوي وغيرهما .
وحكاه عن الأصحاب ، ثم قال : ينبغي أن لا تتعلق به دية كما لا يتعلق به قصاص . ابن كج
الضرب الثالث : أن يعتدل السبب والمباشرة ، كالإكراه ، فإذا أكره على القتل ، وجب القصاص على الآمر ، كما سبق ، وفي المأمور قولان .
أظهرهما : وجوب القصاص أيضا ، لأنه آثم بالاتفاق بخلاف قتل الصائل ، وسواء في جريان القولين كان المكره سلطانا أو متغلبا ، وقيل : هما في السلطان ، فإن كان متغلبا ، وجب القصاص قطعا .
فإن أوجبنا القصاص ، فآل الأمر إلى الدية ، فهي عليهما كالشريكين ، وللولي أن يقتص من أحدهما ، ويأخذ نصف الدية من الآخر ، وإن لم نوجب القصاص على المأمور ، ففي وجوب نصف الدية ، وجهان .
أحدهما : لا يجب ، تنزيلا له منزلة الآلة ، وأصحهما : يجب وهو المنصوص ، وبه قطع الأكثرون ، فإن أوجبناه ، وجبت الكفارة ، وحرم الميراث ، وهل تكون نصف الدية في ماله أم على عاقلته ؟ فيه تردد للإمام .
قلت : الأرجح أنه في ماله . والله أعلم .
وإن قلنا : لا دية ، وجبت الكفارة على الأصح ، لأنه آثم ، فإن أوجبنا الكفارة ، حرم الإرث ، وإلا فوجهان ، أصحهما : الحرمان .
فرع .
إذا أوجبنا القصاص على المكره والمكره جميعا ، وكان أحدهما مكافئا للمقتول دون الآخر ، وجب القصاص على المكافئ دون الآخر ، كشريك الأب ، فإذا ، وجب القصاص على الآمر دون المأمور ، ولو أكره عبد حرا على قتل عبد ، أو ذمي مسلما على قتل ذمي ، فالقصاص على المأمور ، ولو أكره حر عبدا [ ص: 136 ] على قتل عبد ، أو مسلم ذميا على قتل ذمي ، فالقصاص على الأجنبي . أكره الأب أجنبيا على قتل الولد ، أو الأجنبي الأب
فرع .
إذا ، فلا قصاص على الصبي ، وأما المكره ، فيبنى على أن عمد الصبي عمد أم خطأ ؟ فإن قلنا : عمد وهو الأظهر ، فعليه القصاص ، وإن قلنا : خطأ ، فلا ، لأنه شريك مخطئ . أكره بالغ صبيا مراهقا على قتل
قال الإمام : هذا إذا قلنا : يجب القصاص على المكره والمكره ، وجعلناهما كالشريكين ، فأما إن قلنا : لا قصاص على المكره ، ففي وجوب القصاص على المكره مع قولنا عمد الصبي خطأ ، وجهان .
وأما الدية ، فجميعها على المكره إن لم نوجب على المكره شيئا ، وإن أوجبنا عليه نصفها ، فنصفها على المكره ، ونصفها في مال الصبي إن قلنا : عمده عمد ، وإن قلنا : خطأ ، فعلى عاقلته .
ولو ، فلا قصاص على المراهق ، وفي البالغ : القولان ، إن قلنا : عمد الصبي عمد ، وإن قلنا : خطأ ، فلا قصاص قطعا ، لأنه شريك مخطئ . أكره مراهق بالغا
فرع .
، أو على أن يرمي سترة وراءها إنسان ، وعلمه الآمر دون المأمور ، فلا قصاص على المأمور ، ويجب على الآمر على الصحيح ، فإنه آلة له ، ووجه المنع أنه شريك مخطئ . أكره رجل رجلا على أن يرمي إلى طلل علم الآمر أنه إنسان ، وظنه المأمور حجرا أو صيدا
فإن آل الآمر إلى الدية ، فوجهان .
أحدهما : تجب كلها على الآمر واختاره البغوي .
والثاني : عليه نصفها وعلى عاقلة المأمور نصفها ، ولو ، فلا قصاص على [ ص: 137 ] واحد منهما ، لأنهما لم يتعمدا ، وأما الدية فجميعها على عاقلة الآمر إن لم نضمن المكره ، وإلا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصفها ، ولو أكرهه على أن يرمي إلى صيد ، فرمى ، وأصاب رجلا فقتله ، فالصحيح أنه شبه عمد ، فلا قصاص ، لأنه لا يقصد به القتل غالبا ، وهذا هو الذي ذكره أكرهه على صعود شجرة ، أو نزول بئر ، ففعل ، فزلق وهلك الفوراني والبغوي ، وقال والروياني : يجب القصاص . الغزالي
فرع .
لو ، ففي وجوب القصاص ، قولان . قال : اقتل نفسك وإلا قتلتك ، فقتل نفسه
أظهرهما : لا يجب ، فإن أوجبناه ، فعفي عنه على مال ، وجب جميع الدية ، وإن لم نوجبه ، فعليه نصف الدية إن أوجبنا الضمان على المكره .
وجميعها إن لم نوجبه ، ويجري القولان ، فيما لو أكرهه على شرب سم ، فشربه وهو عالم به ، وإن كان جاهلا ، فعلى المكره القصاص قطعا ، ولو قال : اقطع يدك وإلا قتلتك ، فهو إكراه قطعا ، ذكره أبو الحسن العبادي .
فرع .
، فهذا إذن منه في القتل وإكراه ، ولو تجرد الإذن ، فقتله المأذون له ، ففي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تجب للورثة ابتداء عقب هلاك المقتول ، أم تجب للمقتول في آخر جزء من حياته ثم تنتقل إليهم ؟ . قال : اقتلني وإلا قتلتك
إن قلنا بالأول ، وجبت ولم يؤثر إذنه ، وإلا فلا ، وهذا الثاني أظهر ، كذا ذكره البغوي وغيرهما ، لأنه ينفذ منها ديونه ووصاياه ، ولو كانت للورثة لم يكن كذلك ، وأما القصاص ، فلا يجب على المذهب ، وبه قطع الجمهور . والغزالي
وعن سهل [ ص: 138 ] الصعلوكي طرد الخلاف فيه ، ولو ، فلا قصاص ولا دية قطعا ، لأنه إتلاف مأذون فيه ، فصار كإتلاف ماله بإذنه ، ولو أذن عبد في القتل ، أو القطع ، لم يسقط الضمان ، وفي وجوب القصاص إذا كان المأذون له عبدا ، وجهان . قال : اقطع يدي ، فقطعها
أما إذا انضم الإكراه إلى الإذن ، فسقوط القصاص أقوى ، وأما الدية ، فإن لم نوجبها عند تجرد الإذن فمع الإكراه أولى ، وإن أوجبناها ، بني على أن المكره هل عليه نصف الدية ؟ إن قلنا : نعم ، فعليه نصفها ، وإلا فلا .
واعلم أن الأئمة نقلوا أن المكره على قتله ، يجوز له دفع الآمر والمأمور جميعا ، وأنه لا شيء عليه إذا قتلهما ، وأن للمأمور دفع الآمر ، ولا شيء عليه إذا أتى الدفع على نفسه ، فعلى هذا إذا قتله دفعا ينبغي أن يحكم بأنه لا قصاص ولا دية بلا تفصيل ولا خلاف ، وقد أشار إلى هذا أبو الحسن العبادي فقال : إذا قال : اقتلني وإلا قتلتك ، فإن لم يقتله ، فهو استسلام ، وإن قتله ، فهو دفع .
ويمكن أن يقال : موضع التفصيل والخلاف ما إذا أمكنه الدفع بغير القتل ، وإنما لا يلزمه شيء إذا لم يمكنه الدفع بغيره ، ولو قال : اقذفني وإلا قتلتك ، فقذفه ، فقيل : لا حد ، كما لو قال : اقطعني ، قال البغوي : والصحيح وجوبه ، لأنه قد يستعين بالغير في قتل نفسه وقطعه ، ولا يستعان به في القذف ، فجعل القاذف مبتدئا .
قلت : هذا الذي قاله البغوي عجب ، والصواب : أنه لا حد . والله أعلم .
فرع .
لو ، بل تخيير ، فمن قتله منهما كان مختارا لقتله ، وإنما المكره من حمل على [ ص: 139 ] قتل معين لا يجد عنه محيصا ، وفي " الرقم " وجه أنه إكراه ، ونقله المتولي عن اختيار قال : اقتل زيدا أو عمرا وإلا قتلتك ، فهذا ليس بإكراه القاضي حسين ، وليجيء مثله في الطلاق ، والصحيح الأول .
فعلى هذا من قتله منهما ، لزمه القصاص ، ولا شيء على الآمر غير الإثم .
فرع .
لو ، وجب القصاص على الآمر ، وفي الثاني والثالث : القولان ، لأنهما مكرهان . أكره رجلا على أن يكره ثالثا على قتل رابع ، ففعلا