فصل
إنما يحكم بأن ، وهو الصغير في أول أمره ، والمجنون ، فأما إذا صار الصغير مميزا ، فيخير بين الأبوين إذا افترقا ، ويكون عند من اختار منهما ، وسواء في التخيير الابن والبنت ، الأم أحق بالحضانة من الأب في حق من لا تمييز له أصلا غالبا سبع سنين ، أو ثمان تقريبا ، قال الأصحاب : وقد يتقدم التمييز عن السبع وقد يتأخر عن الثمان ، ومدار الحكم على نفس التمييز ، لا على سنه ، وإنما يخير بين الأبوين إذا اجتمع فيهما شروط الحضانة ، بأن يكونا مسلمين حرين عاقلين عدلين مقيمين في وطن واحد على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - ، [ ص: 104 ] وأن تكون الأم خلية ، فإن اختل في أحدهما بعض الشروط ، فلا تخيير ، والحضانة للآخر ، فإن زال الخلل ، أنشئ التخيير ، ولو وجدت الشروط فيهما ، واختص أحدهما بزيادة في الدين أو المال أو محبة الولد ، فهل يختص به أم يجري التخيير ؟ وجهان : أصحهما : الثاني ، ويجري التخيير بين الأم والجد عند عدم الأب ، ويجري أيضا بينها وبين من على حاشية النسب ، كالأخ والعم ، على الأصح ، وقيل : تختص به الأم ، وفي ابن العم مع الأم هذان الوجهان ، إن كان الولد ذكرا ، فإن كان أنثى ، فالأم أحق قطعا ، ويجري الخلاف أيضا بين الأب والأخت والخالة إذا قدمناها عليه قبل التمييز كما سنذكره - إن شاء الله تعالى - ، وإذا اختار أحد الأبوين ، ثم اختار الآخر ، حولناه إليه ، فإن عاد واختار الأول ، أعدناه إلى الأول ، فإن أكثر التنقل بحيث يظن أن سببه نقصانه وقلة تمييزه ، جعل عند الأم كما قبل التمييز ، وكذا لو بلغ على نقصانه وخبله . وسن التمييز
فرع
إذا ، فإن كان ذكرا ، لم يمنعه الأب من زيارة أمه ولا يحوجها إلى الخروج لزيارته ، وإن زارته ، لم يمنعها من الدخول عليه ، وله منع الأنثى من زيارة الأم ، فإن شاءت الأم ، خرجت إليها للزيارة ، لأنها أولى بالخروج لسنها وخبرتها ، ثم الزيارة تكون في الأيام على العادة ، لا في كل يوم ، وإذا دخلت ، لا تطيل المكث ، ولو مرض الولد ذكرا كان أو أنثى ، فالأم أولى بتمريضه ، فإنها أشفق وأهدى إليه ، فإن رضي بأن تمرض في بيته ، فذاك ، وإلا فينقل الولد إلى بيت الأم ، ويجب الاحتراز عن الخلوة إذا كانت تمرضه في بيت الأب ، وكذا إذا زارت الولد ، فإن لم يكن هناك ثالث ، خرج حتى تدخل ، وإذا مات ، لم تمنع من حضور غسله وتجهيزه إلى أن يدفن ، وإن مرضت الأم ، لم [ ص: 105 ] يكن للأب منع الولد من عيادتها ، ذكرا كان أو أنثى ، ولا يمرضها ، قال اختار الأب وسلم إليه الروياني : إلا إذا أحسنت الأنثى التمريض .
فرع
إذا اختار الأم ، فإن كان ابنا ، أوى إليها ليلا ، وكان عند الأب نهارا يؤدبه ويعلمه أمور الدين والمعاش والحرفة ، وإن كانت بنتا ، كانت عند الأم ليلا ونهارا ، ويزورها الأب على العادة ، ولا يطلب إحضارها عنده ، وهكذا الحكم إذا كان الولد عند الأم قبل سن التخيير .
فرع
إذا اختار الأم ، فليس للأب إهماله بمجرد ذلك ، بل يلزمه القيام بتأديبه وتعليمه ، إما بنفسه وإما بغيره ويتحمل مؤنته ، وكذا المجنون الذي لا تستقل الأم بضبطه يلزم الأب رعايته ، وإنما تقدم الأم فيما يتأتى منها وما هو شأنها .
قلت : تأديبه وتعليمه واجب على وليه أبا كان أو جدا أو وصيا أو قيما ، وتكون أجرة ذلك في مال الصبي ، فإن لم يكن له مال ، فعلى من تلزمه نفقته ، وقيل : إن أجرة ما لا يلزمه تعلمه بعد البلوغ تكون في مال الولي مع يسار الولد ، والأول أصح ، وقد سبق بعض هذا في أول كتاب الصلاة . والله أعلم .
فرع
لو خيرناه فاختارهما ، أقرع بينهما ، وإن لم يختر واحدا منهما ، فوجهان : أحدهما : يقرع وبه قطع البغوي ، وأصحهما : الأم أحق ، لأنه لم يختر غيرها ، وكانت الحضانة لها فيستصحب ، وبه قطع في " البسيط " .
[ ص: 106 ] قال الروياني : لو ترك أحد الأبوين في وقت التخيير كفالته للآخر ، كان الآخر أحق به ، ولا اعتراض للولد ، فإن عاد وطلب الكفالة ، عدنا إلى التخيير ، قال : ولو تدافع الأبوان كفالته ، وامتنعا منها ، فإن كان بعدهما من يستحق الحضانة ، كالجد والجدة ، خير بينهما ، وإلا فوجهان : أحدهما : يخير الولد ، ويجبر من اختاره على كفالته ، فعلى هذا لو امتنعا من الحضانة قبل سن التمييز ، يقرع بينهما ، ويجبر من خرجت قرعته على حضانته ، والثاني : يجبر عليها من تلزمه نفقته .
قلت : أصحهما الثاني . والله أعلم .
فصل
ما سبق من أن الأم أولى من الأب قبل التمييز ، وأنه يخير بينهما بعد تمييزه ، هو فيما إذا كان الأبوان مقيمين في بلد واحد ، فأما إذا ، فينظر ، إن كان سفر حاجة ، كحج وغزو وتجارة ، لم يسافر بالولد ، لما في السفر من الخطر والمشقة ، بل يكون مع المقيم إلى أن يعود المسافر ، سواء طالت مدة السفر أم قصرت ، وعن أراد أحدهما سفرا ، أو أرادا سفرا يختلف فيه بلدهما الشيخ أبي محمد وجه أن للأب أن يسافر به إذا طال سفره . وإن كان سفر نقلة ، نظر ؛ إن كان ينتقل إلى مسافة القصر ، فللأب أن ينتزعه من الأم ويستصحبه معه ، سواء كان المنتقل الأب أو الأم ، أو أحدهما إلى بلد والآخر إلى آخر ، احتياطا للنسب ، فإن النسب يتحفظ بالأباء ، ولمصلحة التأديب والتعليم ، وسهولة القيام بنفقته ومؤنته ، وسواء نكحها في بلدها أو في الغربة ، فلو رافقته الأم في طريقه ، دام حقها ، وكذا في المقصد ، ولو عاد من سفر النقلة إلى بلدها ، عاد حقها ، ولو كان الطريق الذي يسلكه مخوفا ، أو البلد الذي يقصده [ ص: 107 ] غير مأمون لغارة ونحوها ، لم يكن له انتزاع الولد ، وإن كان الانتقال إلى دون مسافة القصر ، فوجهان : أحدهما : لا يؤثر ، ويكونان كالمقيمين في محلتين من بلد ، وأصحهما : أنه كمسافة القصر ، ولو اختلفا ، فقال : أريد الانتقال ، فقالت : بل التجارة ، فهو المصدق بيمينه ، وقال القفال : يصدق بلا يمين ، والأول أصح ، فإن نكل ، حلفت ، وأمسكت الولد ، وسائر العصبات من المحارم كالجد والأخ والعم بمنزلة الأب في انتزاع الولد ونقله إذا أرادوا الانتقال ، احتياطا للنسب ، وكذا غير المحارم ، كابن العم ، إن كان الولد ذكرا ، وإن كان أنثى ، لم تسلم إليه ، قال المتولي : إلا إذا لم تبلغ حدا يشتهى مثلها ، وفي " الشامل " أنه لو كان له بنت ترافقه ، سلمت إلى بنته ، وأما المحرم الذي لا عصوبة له ، كالخال والعم للأم ، فليس له نقل الولد إذا انتقل ، لأنه لا حق له في النسب .
فرع
إنما يثبت حق النقل للأب وغيره ، إذا استجمع الصفات المعتبرة في الحضانة ، قال المتولي : ولو كان للولد جد مقيم ، وأراد الأب الانتقال ، كان له أن ينقل الولد ، ولم تمنع منه إقامة الجد ، وكذا ، ولا تمنعه إقامة الأخ أو العم ، لكن لو لم يكن أب ولا جد ، وأراد الأخ الانتقال ، وهناك ابن أخ أو عم يقيمان ، فليس للأخ انتزاعه من الأم لنقله ، بخلاف الأب والجد ، لكمال عنايتهما وتقارب عناية غيرهما من العصبات . حكم الجد عند عدم الأب
فرع
لو كان كل واحد من الأبوين يسافر لحاجة ، واختلف طريقهما ومقصدهما ، فيشبه أن يدام حق الأم ، ويحتمل أن يكون مع الذي مقصده أقرب ، أو مدة سفره أقصر .
[ ص: 108 ] قلت : المختار أنه يدام مع الأم ، وهو مقتضى كلام الأصحاب . والله أعلم .