[ ص: 412 ] باب أخذ الرجل حقه ممن يمنعه إياه
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وكانت هند زوجة لأبي سفيان ، وكانت القيم على ولدها لصغرهم ، بأمر زوجها ، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكت إليه أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بالمعروف ، فمثلها الرجل يكون له الحق على الرجل ، فيمنعه إياه ، فله أن يأخذ من ماله حيث وجده بوزنه أو كيله ، فإن لم يكن له مثل ، كانت قيمته دنانير أو دراهم ، فإن لم يجد له مالا باع عرضه واستوفى من ثمنه حقه ، فإن قيل فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " " قيل إنه ليس بثابت ، ولو كان ثابتا لم يكن الخيانة ما أذن بأخذه صلى الله عليه وسلم ، وإنما الخيانة أن آخذ له درهما بعد استيفائه درهمي ، فأخونه بدرهم ، كما خانني في درهمي ، فليس لي أن أخونه بأخذ ما ليس لي وإن خانني " . أد إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
قال الماوردي : وهذا صحيح ، وهو أن يكون لرجل على رجل دين ، فهو على ضربين :
أحدهما : أن يكون على مقر ومليء يقدر على أخذه منه متى طالبه به ، فلا يجوز لصاحب الدين أن يأخذه من مال الغريم بغير إذنه ، وإن أخذه كان آثما ، وعليه رده ، وإن كان جنس دينه ، لأن لمن عليه الدين أن يقضيه من أي أمواله شاء ، ولا يتعين في بعضه ، ويجري على ما أخذه حكم الغاصب ، على أن يرد ما أخذه ، وله أن يطالب بما وجب له ، ولا يكون قصاصا ، لأن القصاص يختص بما في الذمم ، دون الأعيان .
والضرب الثاني : أن لا يقدر صاحب الدين على قبض دينه ، فهو ضربان :
أحدهما : أن يقدر على أخذه منه بالمحاكمة .
والثاني : أن يعجز عنه .
فإن عجز عن أخذه منه بالمحاكمة ، وذلك من أحد وجهين : إما لامتناع الغريم بالقوة ، وإما لجحوده مع عدم البينة ، فيجوز لصاحب الدين أن يأخذ من مال غريمه [ ص: 413 ] قدر دينه سرا ، بغير علمه ، فإن قدر عليه من جنس حقه ، لم يتجاوز إلى غيره ، وإن لم يقدر عليه من جنسه ، جاز أن يعدل إلى غير جنسه ، سواء كان من جنس الأثمان ومن غير جنسها ، وإن قدر صاحب الدين على أخذه بالمحاكمة ، وعجز عنه بغير المحاكمة ، وذلك لأحد وجهين إما لمطله مع الإقرار ، أو الإنكار مع وجود البينة ، فهو على ضربين :
أحدهما : أن يقدر على أخذ دينه سرا من جنسه ، فيجوز أخذه منه بغير علمه ، لأن إحواجه إلى المحاكمة عدوان من الغريم .
والضرب الثاني : أن لا يقدر على أخذه ، إلا من غير جنسه ، ففي جواز أخذه سرا بغير علمه وجهان :
أحدهما : يجوز تعليلا بما ذكرناه من عدوان الغريم ، وهو قول من زعم أن لصاحب الدين ، أن ينفرد ببيعه من غير حاكم .
والوجه الثاني : ليس له أخذه إلا بالمحاكمة لقدرته عليه بما يزول عنه الهم ، وهو قول من زعم أن صاحب الدين لا يجوز له بيعه ، إلا بالحاكم فهذا شرح مذهبنا .
وقال أبو حنيفة : إن قدر على أخذ دينه إذا لم يصل إليه من غريمه ، أن يأخذ من جنسه ، جاز له أن يأخذ شيئا من ماله ، وكذلك لو كان دينه دراهم فوجد دنانير ، أو دنانير فوجد دراهم ، لأنها من جنس الأثمان ، وإن تنوعت ، وإن لم يقدر عليه إلا من غير جنسه في الأمتعة والعروض لم يكن له أخذه ، احتجاجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " . وبقوله صلى الله عليه وسلم : " أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك " ولأنه مال لا يجوز لأحد أن يتملكه ، فلم يجز أن يأخذه قياسا على ما في يد الغريم من رهون ، وودائع . لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه
ولأنه إذا أخذه من غير جنس حقه لم يحل أن يأخذه لأنه [ إما أن ] يملكه أو يبيعه ، فلم يجز أن يتملكه لأنه من غير جنس حقه ، ولم يجز أن يبيعه ، لأنه لا ولاية له على بيعه ، فبطل أن يكون له حق في أخذه .
ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لصاحب الحق يد ومقال " . فكانت اليد على العموم .
وروى الشافعي عن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عائشة ، رضي الله عنها أن هند امرأة أبي سفيان قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وإنه لا يعطيني ما يكفيني ، وولدي ، إلا ما أخذت منه سرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " . عن
[ ص: 414 ] ولأن من الحقوق المختلفة ما يتعذر وجود جنسها في ماله ، فدل على جواز أخذه من غير جنسه ومن جنسه ، ولأن من جاز له أخذ دينه من جنسه ، جاز له أخذه مع تعذر الجنس أن يأخذ من غير جنسه قياسا على أخذ الدراهم بالدنانير والدنانير بالدراهم ، ولأن من جاز أن يقضى منه دينه ، جاز أن يتوصل مستحقه إلى أخذه ، إذا امتنع بحسب الممكن قياسا على المحاكمة .
فإن قيل : فالحاكم يجبر على البيع ولا يبيع عليه .
قيل : عندنا يبيع عليه في دينه ، إذا امتنع من بيعه سواء كان ماله عروضا ، أو عقارا ، وحكي عن أبي حنيفة : أنه منع من بيع العقار في الديون ، وهو عندنا مبيع عليه ، في الحالين جبرا ، لأن جميع الديون تقضى من جميع الأموال كدين الميت .
وأما الجواب عن قولهم : " فهو إن حمله على أن لا يدفع صاحب الدين من دينه ، وهو مظلوم ، أولى من حمله على من عليه الدين ، وهو ظالم ، وأما الجواب عن قوله : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " . وهو أن الأمانة هي الوديعة تؤدى إلى مالكها ، وليس مال الغريم وديعة ، يكون أمانة ، وقوله " أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك " فليس مستوفي حقه خائنا ، فلم يتوجه إليه الخطاب . ولا تخن من خانك
فإن قيل : فما معنى الخبر ؟ قيل : يحمل معناه مع ضعفه ، عند أصحاب الحديث ، على أحد وجهين : إما على الأعراض إذا هتكت ، والحقوق إذا بطلت ، وإما على الودائع إذا جحدت ثم أديت .
وأما قياسه على ما في يده من رهون وودائع ، فتلك لا يملكها فلم يجز أن تؤخذ في دينه ، وهذا ماله فجاز أن يؤخذ من دينه .
وأما الجواب عن استدلالهم بالتقسيم في أخذه ملكا ، أو مبيعا فإنه ينقسم يؤخذ في أخذ الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم ، ولا يمنع جوازه ، فكذلك في غيره على أن لنا في البيع ما سنذكره .