مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " لأنه أذنب بأن نطق بالقذف والتوبة منه أن يقول : القذف باطل ، كما تكون الردة بالقول ، والتوبة عنها بالقول . فإن كان عدلا قبلت شهادته ، وإلا فحتى يحسن حاله ، قال والتوبة إكذابه نفسه الشافعي : أخبرنا سفيان بن عيينة ، قال : سمعت الزهري يقول : زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز ، فأشهد لأخبرني ، ثم سمى الذي أخبره أن عمر قال لأبي بكرة تب تقبل شهادتك أو قال إن تبت قبلت شهادتك . قال : وبلغني عن ابن عباس مثل معنى هذا وقال ابن أبي نجيح : كلنا نقوله ، قلت : من ؟ قال : عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وقال الشعبي : يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته ؟ وقال الشافعي : وهو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات لأهلها فكيف تردونها في أحسن حالاته وتقبلونها في شر حالاته ؟ وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا كيف لا تقبلون توبة القاذف وهو أيسر ذنبا " .
قال الماوردي : اعلم أن القاذف إذا حقق قذفه بما قدمناه كان على عدالته وقبول شهادته ، وإن لم يحققه تعلق به ما ذكرنا من الأحكام الثلاثة ، وإن لم يتب من قذفه استقرت الأحكام فيه ، وإن تاب ارتفع ما سوى الجلد ، فلزم أن نذكر ، وشروطها يختلف باختلاف الذنب ، للذنب حالتان . شروط التوبة
إحداهما : أن يتعلق به حق .
والثاني : أن لا يتعلق به حق ، فإن لم يتعلق بالذنب حق سوى الإثم كمن قبل أجنبية أو استمتع بما دون الفرج منها فمأثم هذا الذنب مختص بحق الله تعالى لا يتجاوزه إلى مخلوق ، فالتوبة منه تكون بشرطين :
[ ص: 29 ] أحدهما : ، الندم على ما فعل ، فتصح توبته بهما ، قال الله تعالى : والعزم على ترك مثله في المستقبل والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم [ آل عمران : 135 ، 136 ] . قوله فاستغفروا لذنوبهم يريد به الندم ، لأن ظهوره يكون بالاستغفار ، وقوله : ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون هو العزم على تركه من بعد وقبل توبته بالاستغفار ، وترك الإصرار ، لأنها توبة في الظاهر والباطن ، وهي في الباطن الندم عليه والعزم على ترك مثله ، فإن كان هذا الذنب باطنا أقنع فيه التوبة الباطنة ، وإن كان ظاهرا أقنع فيما بينه وبين الله تعالى التوبة الباطنة ، ولم يقنع فيما بينه وبين العباد إلا التوبة الظاهرة ، فإن تجاوز مأثم هذا الذنب حق الله تعالى إلى أن أثم به في حقوق العباد وإن لم يتعلق به غرم ولا حد ، كمن احتاج مع التوبة في حق الله تعالى بالندم والعزم إلى استحلال المضروب باستطابة نفسه ، ليزول عنه الإثم في حقه ، فإن أحله منه عفوا وإلا مكنه من نفسه ليقاتله على مثل فعله ، وإن كان لا يجب عليه في الحكم قصاص ولا غرم ، لأننا نعتبر في القصاص المماثلة ، وهي هاهنا متعذرة ، ويعتبر في التوبة : الانقياد ، والطاعة ، وهي هاهنا موجودة ، وروى تعدى بضرب إنسان فآلمه إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء ، فرأى رجلا يصلي مع النساء ، فضربه بالدرة ، فقال الرجل : والله لئن كنت أحسنت لقد ظلمتني ، وإن كنت أسأت فما أعلمتني ، فقال عمر : أما شهدت عزمتي ؟ قال : ما شهدت لك عزمة ، فألقى إليه الدرة ، وقال : اقتص قال : لا أقتص اليوم ، قال : فاعف قال : لا أعفو ، فافترقا على ذلك ، ثم لقيه من الغد ، فتغير لون عمر ، فقال له الرجل : يا أمير المؤمنين أرى ما كان مني قد أسرع فيك ، قال : أجل قال : فأشهدك أني قد عفوت عنك .
فبذل له القصاص من الضرب وإن لم يجب ليزول عنه مأثم الخطأ في حقه ، وإن كان الخطأ في حق الله عفوا ، فإن قاد نفسه ، فلم يستوف منه صحت توبته ، لأن عليه الانقياد ، وليس عليه الاستيفاء .