فصل : فأما الجواب عن استدلالهم بفرق ما بين ولد الأمة والحرة من الضعف والقوة ، فهو أن هذا الفرق يقتضي اختلافهما في سبب اللحوق ، وقد اختلفا فيه لأن ولد الحرة يلحق بالعقد مع إمكان الوطء ، وولد الأمة لا يلحق إلا بعد ثبوت الوطء فأغنى هذا الفرق عن افتراقهما في الإقرار به . وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لو لحق به من غير إقرار لم ينتف عنه إلا باللعان ، فهو أن أحمد بن حنبل قد روى عن الشافعي رضي الله عنه أنه لاعن من ولد الأمة ، وقال : ألا تعجبون من قول الشافعي : إن ، وبه قال الرجل يلاعن من الأمة أبو العباس بن سريج وأبو علي الطبري ، وله عندي وجه إن لم يدفعه نص ، واختلف أصحابنا في تخريجه قولا ثانيا للشافعي رضي الله عنه ؛ فمنهم من خرجه قولا للشافعي أن ولد الأمة لا ينتفي إلا باللعان كولد الحرة ، فعلى هذا قد استويا وسقط الاستدلال به ، وهل يستغني بإنكاره عن القذف في لعانه ؟ على وجهين : أحدهما : يغنيه إنكاره عن القذف ويكون لعانه أن يقول : أشهد بالله أن هذا الولد ليس مني ، ولا تحتاج الأمة بعده إلى أن تلتعن ؛ لأن ما ثبت عليها الزنا ، ولم يجب عليها بلعانه حد . والوجه الثاني : أنه لا يغنيه إنكاره عن القذف ، فيلتعن كما يلتعن من الحرة ، وعليها الحد بلعانه إلا أن تلتعن ، فهذا إذا قيل بتخريجه قولا ثانيا ، ومن أصحابنا من أنكره وامتنع من تخريجه قولا للشافعي وتأويله : أن يلتعن من الأمة إذا كانت زوجة . فعلى هذا يكون أن ولد الأمة لما انتفى بالاستبراء لم يحتج إلى نفيه باللعان ، وولد الحرة لما لم ينتف بالاستبراء احتاج إلى نفيه باللعان . وأما الجواب عن استدلالهم بأنها لو صارت بالوطء فراشا كالحرة لارتفع بالطلاق زوال الملك ، ولم يرتفع بالاستبراء كما لا يرتفع بالاستبراء فراش الحرة ، فهو أنهما مستويان في أن فراش كل واحدة منهما يرتفع بارتفاع ما ثبت به فراشها ، فإن فراش الحرة ثبت بالعقد فارتفع بارتفاع العقد ، وفراش الأمة ثبت بالوطء فارتفع بارتفاع الوطء ولم يحتج إلى رفعه بالطلاق ، لأن الطلاق لا يكون إلا في النكاح ولم يحتج فيه إلى زوال الملك ؛ لأن وجود الملك لا يمنع من عدوم الفراش في الابتداء ، وكذلك لا يمنع بقاء الملك في ارتفاع الفراش في الانتهاء وبعكسها تكون الحرة ، وإذا كان كذلك ، فالاستبراء واجب في ارتفاع فراش الأمة ونفي ولدها عن السيد ، وحكى الفرق بين ولد الأمة وولد الحرة في اللعان ابن أبي هريرة فيه وجها عن بعض أصحابنا : أنه استظهار مستحب وليس بواجب ، ويكفي في نفي الولد أن يدعي الاستبراء ، وهذا وجه لا يتحصل ؛ لأنه إذا كانت دعوى الاستبراء شرطا [ ص: 158 ] في نفيه لم يجز أن يكون كاذبا في دعواه ، فاقتضى أن يكون الاستبراء شرطا واجبا في رفع الفراش ونفي الولد ، فإن جاءت بولد بعد الاستبراء لأقل من ستة أشهر ، فهو لاحق به للعام بتقدمه على استبرائه سواء استبرأها بالأقراء أو بالولادة ، وإن جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت استبرائها نظر في الاستبراء ، فإن كان بولد وضعته لم يلحق به الثاني باتفاق أصحابنا ؛ لأنه إن كان بين الولدين ستة أشهر فصاعدا كانا من حملين فصار الثاني حادثا من وطء بعد الاستبراء يقينا فلذلك لم يلحق به ، وإن كان قد استبرأها بالأقراء فمذهب الشافعي أنه لا يلحق به .
وقال أبو العباس بن سريج : إن وضعته لأقل من أربع سنين لحق به كالحرة والمطلقة يلحق به ولدها بعد العدة إذا وضعته لأقل من أربع سنين وهذا هو القياس عندي ، وإن كان نص الشافعي على خلافه في ولد الأمة ، وقال : إنها إذا وضعته بعد الاستبراء لستة أشهر فصاعدا لم يلحق به بخلاف ولد الحرة ، وفرق أصحابنا بينهما بأن ولد الحرة يلحقه بالإمكان ، والإمكان موجود فيما دون أربع سنين فلذلك لحق به ، وولد الأمة يلحق بالعلم بالوطء ، والعلم غير موجود فيما زاد على ستة أشهر فلذلك لم يلحق به ، وفي هذا الفرق وهاء إذا استبرأ ، فعلى هذا ، ففي وجوب إحلافه وجهان : أحدهما : لا يمين عليه ، وهذا على الوجه الذي حكاه لو ادعى السيد الاستبراء لنفي الولد وأنكرته الأمة ابن أبي هريرة أن نفيه معتبر بدعوى الاستبراء لا بفعله . والوجه الثاني : وهو قول الجمهور : أن اليمين عليه واجبة إذا قيل إن نفيه معتبر بفعل الاستبراء لا بدعواه ، فعلى هذا في كيفية يمينه وجهان : أحدهما : يحلف بالله لقد استبرأها قبل ستة أشهر من ولادته . والوجه الثاني : يحلف بالله لقد ولدته لستة أشهر بعد استبرائه ، فإن حلف انتفى عنه ، وإن نكل فعلى وجهين مضيا : أحدهما : يكون لاحقا به له . والوجه الثاني : أن اليمين ترد على الأمة ، فإن حلفت لحق به وكانت صفة يمينها على ما ذكرنا من الوجهين في يمين السيد ، وإن نكلت عن اليمين كانت موقوفة على بلوغ الولد ، فيحلف بالله أنه ولده وجها واحدا ، فإن حلف لحق به ، وإذا نكل انتفى عنه وقد مضى في هذا الاتصال من شرح المذهب ما لم نجد بدا منه ، فلذلك أطنبت وإن كنت للإطالة كارها وبتوفيق الله مستعينا .