فصل : ودليلنا السنة ، والإجماع ، والعبرة . فأما السنة : فروى الشافعي - رضي الله عنه - عن مالك - رضي الله عنه - عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنهم : سعد بن أبي وقاص ، وعبد بن زمعة اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن وليدة زمعة فقال سعد : إن أخي عتبة عهد إلي أنه كان ألم بها في الجاهلية ، وأن أطلبه إن دخلت مكة . فقال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر وفيه ثلاثة أدلة : أحدها : قول أن عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فجعلها فراشا لأبيه ، وجعل ولدها أخا له بالفراش ، فإن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على هذا دليل على ثبوته وصحته . والثاني : جواب النبي صلى الله عليه وسلم فيما حكم به من قوله : " عبد بن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر " فجعلها فراشا وحكم به هو لك يا لعبد بن زمعة أخا وجعل الفراش مثبتا لنسبه . والثالث : أنه لما صارت الحرة فراشا بهذا الخبر وهو في الأمة دونها فلأن تصير به الأمة فراشا أولى ، لأن نقل السبب مع الحكم يمنع من خروج الحكم عن ذلك السبب إجماعا ، إنما الخلاف هل يكون مقصورا عليه أو متجاوزا له ؟ . [ ص: 155 ] اعترضوا على الاستدلال بهذا الخبر من خمسة أوجه : أحدها : أنه حكم به لعبد بن زمعة عبدا لا ولدا لأمرين : أحدهما : قوله لعبد بن زمعة : هو لك ، فهذه الإضافة تقتضي الملك دون النسب . والثاني : ما روي أنه قال : " هو لك عبد " . والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أن التنازع كان في نسبه دون رقه ، فكان الحكم مصروفا إلى ما تنازعا فيه . والثاني : أنه علل بالفراش ، . والفراش علة في ثبوت النسب دون الرق
والثالث : أننا روينا أنه صلى الله عليه وسلم قال : هو لك يا عبد بن زمعة أخا " وما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم : " هو لك عبد " محمول على النداء ، كأنه قال : يا عبد فحذف حرف النداء إيجازا كما قال تعالى : ( يوسف أعرض عن هذا ) [ يوسف : 29 ] . يعني يا يوسف . والاعتراض الثاني : أن قالوا : دعوى النسب تصح من جميع الورثة ، ودعوى الملك تصح من بعضهم .
وقد كان لزمعة ابن هو عبد المدعي ، وبنت هي ولم تدع ، فدل على قصور الدعوى على الملك دون النسب . والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنه قد صرح في الدعوى بالنسب دون الملك . فقال : أخي وابن وليدة أبي ، فلم يجز أن يحمل على غيره . والثاني : أن تفرده بالدعوى مع إمساك سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم محتمل لأحد أمرين : إما لاستنابتها له لأنه ألحق بحجته ، وإما لأنه كان وارث أبيه دونها ؛ لأن سودة زمعة مات كافرا وقد أسلمت قبله وأسلم عبد بعده ، فورثه عبد دونها ، فلذلك تفرد بالدعوى . الاعتراض الثالث : أن قالوا : قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة أن تحتجب منه ، ولو كان أخا لها لما حجبها عنه ، فدل على أنه نفى نسبه ولم يلحقه . والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنه قد حكم لعبد بما ادعاه من نسبه ، والحكم بالدعوى محمول على إثباتها دون إبطالها . والثاني : أنه لو نفاه لأجرى عليه حكم الرق ، ولم يفعل ذلك . وأمره سودة بالاحتجاب عنه محمول على أحد وجهين : إما لأن يبين بذلك أن للزوج أن يحجب زوجته عن أقاربها ، فيصير ذلك منه ابتداء لبيان الحكم ، وإما لأنه رأى فيه شبها قويا من سودة عتبة ، وقد نفاه الشرع عنه بالفراش الثابت لغيره ففعل ذلك إما بطريق الاستظهار ، وإما لأن ترى ما فيه من الشبه سودة بعتبة ، فترتاب في نسبه . [ ص: 156 ] والاعتراض الرابع : أن قالوا : قد أضمرتم في ثبوت نسبه الإقرار بالوطء وليس بمذكور ، ونحن شرطنا الإقرار بنسبه وهو مذكور ، فصار بأن يكون دليلا على ثبوت نسبه بالإقرار المذكور أولى من الوطء الذي ليس بمذكور . والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن عبدا ادعى أخوته ؛ لأنه ولد على فراش أبيه ، فصار الفراش موجبا لثبوت النسب دون الإقرار ، والفراش لا يكون إلا بعد الوطء ، فصار ثبوت الفراش إقرارا بالوطء . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سبب لحوق نسبه الفراش دون الإقرار ، فلم يجز أن يحمل على غير السبب الذي وقع به التعليل . والاعتراض الخامس : أن قالوا : إنما أثبت نسب الولد ، لأن أمه كانت أم ولد تصير فراشا بالولد الأول ولا يراعى إقراره بالولد الثاني . والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن إطلاق حكمه دليل أنه لا فرق بين الأمرين . والثاني : أنه لم يعرف لزمعة ولد غير عبد ، ولو كان لعرف فبطل هذا التأويل . وأما الدليل من طريق الإجماع : فهو ما رواه وسودة الشافعي رضي الله عنه ، عن مالك ، عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد ، عن عمر رضي الله عنهم أنه قال : ما بال رجال يطئون ولائدهم ، ثم يرسلونهن ، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها ، فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن .
فنادى به في الناس فلم ينكره - مع انتشاره فيهم - أحد ؟ فصار إجماعا ، فإن قيل : خالفه زيد بن ثابت ؛ لأنه نفى حمل جارية له ، قيل : إنما نفاه ؛ لأنه قال : كنت أعزل عنها ، فدل على أنه مجمع معهم إذ لو لم يعزل كان لاحقا به ، وأما الدليل من طريق الاعتبار : فهو أنه وطء ثبت به تحريم المصاهرة فوجب أن يثبت به لحوق النسب كوطء الحرة ، ولأن كل كتحريم المصاهرة ، ولأن الإقرار بالوطء إقرار بالسبب ، والإقرار بالسبب إقرار بالمسبب : كالمقر بالشراء يكون مقرا بالتزام الثمن ؛ لأن العقد سبب بالمسبب لاستباحة الوطء ، فإذا ألحق بالسبب وهو العقد فأولى أن يلحق بالمسبب من الوطء ، ولأنه لما لحق بوطء الشبهة وهو حلال في الظاهر حرام في الباطن ، كان أولى أن يلحق بوطء الأمة الذي هو حلال في الظاهر والباطن ؛ ولأنهم قد ألحقوا به ولد الحرة مع عدم الوطء ونفوا عنه ولد الأمة مع وجود الوطء . وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما يثبت بوطء الحرة ثبت بوطء الأمة وهذا عكس المعقول وقلب للسنة [ ص: 157 ] الولد للفراش وللعاهر الحجر