مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " ولو قال لها : يا زانية ، فقالت له : بل أنت زان لاعنها وحدت له ، وقال بعض الناس : لا حد ولا لعان فأبطل الحكمين جميعا وكانت حجته أن قال : أستقبح أن ألاعن بينهما ثم أحدها ، وما قبح فأقبح منه تعطيل حكم الله تعالى عليهما " .
قال الماوردي : وهذا كما قال إذا ، وجب على كل منهما لصاحبه حد القذف ، فيجب عليه الحد لها بقوله : يا زانية ، ويجب عليها الحد له بقولها : بل أنت ، فإن لم يلتعن حد لها وحدت له ، وإن التعن والتعنت سقط عنه حد القذف بلعانه ، وسقط عنها حد الزنا دون حد القذف . قذفها وقذفته فقال لها : يا زانية ، فقالت : بل أنت زان
فإن التعن ولم تلتعن هي سقط عنه حد القذف بلعانه ووجب عليها حدان ، حد الزنا وحد القذف ويقدم حد القذف على حد الزنا لتقدم وجوبه ، ولأنه من حقوق الآدميين ، فإن كانت بكرا حدها الجلد لا يوالي عليها بين الحدين وأمهلت بينهما ليبرأ جلدها ، وإن كانت ثيبا حدها الرجم ، رجمت لوقتها ، وإن لم يلتعن الزوج منها ، حد لها حد القذف ، وحدت له حد القذف ، ولم يتقاصا الحدين لأن القذف لا يدخله القصاص ، ألا ترى أن رجلا لو قذف رجلا لم يكن له أن يقتص من القاذف بأن يقذفه مثل قذفه ، فإذا لم يتقاصا القذف ، لم يتقاصا حد القذف ، ولكن لو تبارآ وعفى كل [ ص: 118 ] واحد منهما عن صاحبه جاز فسقط الحدان بعفوهما لا بقصاصهما ، فهذا شرح مذهبنا في قذفه لها وقذفها له .
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : إذا قذفها فقذفته لم يجز أن يلتعنا ، وحدت لقذفه ولم يحد لقذفها ، استدلالا باستقباح الجمع بين الحد واللعان ؛ لأن من حد لم يلتعن ، ومن التعن لم يحد ، قالوا : ولأن اللعان حد فلا يوالى بين حدين .
قالوا : ولأن من أصلنا أن المحدود لا يلتعن ، وهذه في لزوم الحد لها كالمحدودة ، فوجب أن تسقط به الحدود .
ودليلنا قوله - عز وجل - : والذين يرمون أزواجهم [ النور : 6 ] فكان على عمومه في جواز اللعان لقذفه ؛ لأنهما قذفان فلا يسقط حكم أحدهما بالآخر ، كتقاذف الأجنبيين ، ولأن اختلاف حكم القذفين عند انفرادهما لا يوجب سقوط أحدهما بالآخر عند اجتماعهما كتقاذف الحر والعبد ، ولأن كل واحد منهما قد صار قاذفا ومقذوفا فصارت حالهما سواء وكانا بتغليظ الالتعان أولى ؛ ولأن اللعان حق الزوج موضوع لنفي النسب الذي لا ينتفي بغيره ، فلو سقط حقه من اللعان بقذفها له لما أمكن زوجا أن ينفي نسبا إذا قذف ، ولتوصلت كل زوجة إلى إبطال حق الزوج من اللعان ونفي النسب بقذفه وألحقت به كل ولد من زنا ، وما أدى إلى هذا فالشرع مانع منه ، فأما الجواب عن استقباحه الجمع بين اللعان والحد فهو ما أجاب به الشافعي - رضي الله عنه - إن أقبح منه تعطيل حكم الله تعالى عنهما ، ثم هلا إذا استقبح الجمع بينهما أثبت حكم أغلظهما وهو اللعان ، وأسقط حكم أخفهما وهو الحد ، فكان أشبه بالصواب وإن لم يكن في واحد منهما صواب ، والجمع بينهما في استبقاء الحقين أولى من إسقاط أحدهما .
وقولهم : إن اللعان حد فلا يوالى بين حدين فالجواب عنه من وجهين :
أحدهما : وهو قوله في القديم : يجب بقذفها حد واحد ؛ لأن كلمة القذف واحدة .
والثاني : أنه ليس يمتنع أن يوالي عليه حدودا متجانسة كالقاذف لجماعة مختلفة كالقذف والزنا ، وأما بناؤهم ذلك على أصلهم فهم مخالفون عنه أصلا وفرعا فلم يسلم لهم دليل .