[ ص: 74 ] باب ما يكون بعد التعان الزوج من الفرقة ونفي الولد وحد المرأة من كتابين قديم وجديد
قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " فإذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدا بحال وإن أكذب نفسه التعنت أو لم تلتعن ، وإنما قلت هذا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " ولم يقل حتى تكذب نفسك وقال في المطلقة ثلاثا : " لا سبيل لك عليها " ولما قال - عليه الصلاة والسلام - : حتى تنكح زوجا غيره وكانت فراشا لم يجز أن ينفي الولد عن الفراش إلا بأن يزول الفراش وكان معقولا في حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ألحق الولد بأمه أنه نفاه عن أبيه وإن نفيه عنه بيمينه بالتعانه لا بيمين المرأة على تكذيبه بنفيه ، ومعقول في إجماع المسلمين أن الزوج إذا أكذب نفسه لحق به الولد وجلد الحد إذ لا معنى للمرأة في نفسه وأن المعنى للزوج فيما وصفت من نفيه وكيف يكون لها معنى في يمين الزوج ونفي الولد وإلحاقه ، والدليل على ذلك ما لا يختلف فيه أهل العلم من أن الأم لو قالت : ليس هو منك إنما استعرته لم يكن قولها شيئا إذا عرف أنها ولدته على فراشه إلا بلعان ؛ لأن ذلك حق للولد دون الأم ، وكذلك لو قال : هو ابني ، وقالت : بل زنيت فهو من زنا كان ابنه ، ألا ترى أن حكم الولد في النفي والإثبات إليه دون أمه ، فكذلك نفيه بالتعانه دون أمه " . الولد للفراش
قال الماوردي : وقصد الشافعي بهذه الجملة الكلام على فصلين :
أحدهما : أن أحكام اللعان مختصة بلعان الزوج وحده .
والثاني : أن تحريم اللعان مؤبد لا يزول وإن أكذب نفسه .
فأما الفصل الأول من أحكام اللعان : فقد ذكرنا أن أربعة وخامس يختص بالزوجة ، فأما الأربعة : فارتفاع الفراش ، وتأبيد التحريم ، ونفي النسب ، وسقوط حد القذف ، وأما الخامس المختص بالزوجة فهو وجوب حد الزنا عليها إلا أن تلتعن ، وهذه الأحكام الخمسة ثبتت بالتعان الزوج وحده ، ولعان الزوجة مقصور على سقوط الزنا عنها . أحكام اللعان
[ ص: 75 ] وعلق مالك جميع هذه الأحكام بلعانهما معا ، وعلقها أبو حنيفة بلعانهما وحكم الحاكم ، وقد مضى الكلام معهما .
وأما الفصل الثاني في تأبيد التحريم : فعند الشافعي أن ، فإن تحريم اللعان مؤبد لا يزول أبدا لزمه من الأحكام الأربعة ما كان عليه وذلك شيئان : وجود الحد ، ولحوق النسب ، وبقي ما كان له من رفع الفراش وتأبيد التحريم بحاله ، فلا تحل له وإن أكذب نفسه . أكذب نفسه بعد التعانه
وبه قال من الصحابة عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم .
ومن التابعين : الزهري ، ومن الفقهاء : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو يوسف ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة ، ومحمد : إذا أكذب نفسه حلت له ، وكذلك لو وجد في لعانه حد في قذف فلم يجعل تحريم اللعان مؤبدا .
وقال سعيد بن المسيب : إن أكذب نفسه حلت له بالعقد الأول من غير نكاح مستجد .
وقال سعيد بن جبير : إن أكذب نفسه وهي في العدة حلت له ، وإن أكذب نفسه بعد انقضاء عدتها لم تحل له أبدا .
وقال الحسن البصري : إذا أكذب نفسه لم يلحق به النسب كما لا يرتفع به التحريم .
واستدل من نصر قول أبي حنيفة بعموم قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] . وهذه من وراء ذلك فحلت له ، ولأنه تحريم يختص بالزوجية فلم يتأبد كالطلاق وخالف تحريم الرضاع ؛ لأنه لا يختص بالزوجية ، ولأنه تحريم إذا عري عن الحرمة لم يتأبد ثبوته كالردة طردا والرضاع عكسا ، ولأن ما استفيد حكمه باللعان جاز أن لا يتأبد ثبوته كالنسب .
ودليلنا رواية محمد بن زيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا .
وروى الزهري ، عن سهل بن سعد : عويمر العجلاني لاعن امرأته ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وقال : " لا يجتمعان أبدا " فدل هذا الخبر على تأبيد التحريم من وجهين : أن
أحدهما : نص عليه .
[ ص: 76 ] والثاني : أنه لو جاز أن تحل لوجب أن يذكر شرط الإحلال كما قال في الطلاق الثلاث : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] .
ومن القياس : أنه تحريم عقد لا يرتفع بغير تكذيب وحد فوجب أنه لا يرتفع بالتكذيب والحد كالمصاهرة ، ولأنه لفظ موضوع للفرقة فوجب أن لا يرتفع تحريمه بالتكذيب كالطلاق ، ولأن تحريم الزوجة ينقسم أربعة أقسام : منها تحريم يرتفع بغير عقد كالطلاق الرجعي مع بقاء العدة .
ومنها تحريم يرتفع بعقد كالطلاق الرجعي بعد العدة .
ومنها تحريم بعقد وإصابة زوج كالطلاق الثلاث .
ومنها تحريم مؤبد كتحريم المصاهرة والرضاع ، فلما لم يكن تحريم اللعان ملحقا بالأقسام الثلاثة في شروط الإباحة وجب أن يكون ملحقا بالرابع في تأبيد التحريم . فأما عموم الآية فمخصوص بنص السنة . وأما قياسهم على تحريم الطلاق فالجواب عنه مع تسليم الوصف المتنازع فيه هو أن الطلاق لما كان منه ما لا يرتفع العقد ضعف عن تحريم الأبد ، وخالف تحريم ما لا يصح أن يثبت معه العقد لقوته . أما قياسهم على الردة فالجواب عنه أن الردة قد لا تقع بها الفرقة إذا عاد إلى الإسلام في العدة . لم يتأبد تحريمها إذا وقعت الفرقة بخلاف اللعان . وأما قياسهم على النسب فالمعنى فيه أنه حق عليه فجاز أن يلحقه بالتكذيب ، وارتفاع التحريم حق له فلم يقبل منه فصار في النسب مقرا وفي ارتفاع التحريم مدعيا ، والإقرار ملزم والدعوى غير ملزمة ، وهو دليل على الحسن البصري .