[ ص: 58 ] باب كيف اللعان
من كتاب اللعان والطلاق وأحكام القرآن
قال الشافعي - رحمه الله - : " ولما حكى سهل شهود المتلاعنين مع حداثته وحكاه ابن عمر - رضي الله عنهما - استدللنا على أن اللعان لا يكون إلا بمحضر من طائفة من المؤمنين ؛ لأنه لا يحضر أمرا يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ستره ولا يحضره إلا وغيره حاضر له ، وكذلك جميع حدود الزنا يشهدها طائفة من المؤمنين أقلهم أربعة ؛ لأنه لا يجوز في شهادة الزنا أقل منهم ، وهذا يشبه قول الله تعالى في الزانيين : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وفي حكاية من حكى اللعان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة بلا تفسير دليل على أن الله تعالى لما نصب اللعان حكاية في كتابه ، فإنما لاعن - صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين بما حكى الله تعالى في القرآن " .
قال الماوردي : وقد مضى الكلام في تغليظ اللعان بحضور الذين أقلهم أربعة بما قدمناه في الدليل . وكذلك سائر ، فلما لم يثبت إلا بأربعة كالزنا ، كان أقل من شهد حده أربعة ، وما يثبت بشاهدين كالقذف ، فالشاهدان أقل من يحضر استيفاءه ، فأما ما الحدود التي يخفى أثرها بعد الاستيفاء كحد الزنا والقذف ، فليس يؤمر في استيفائه بحضور الشهود ، لأن شواهد استيفائه تغني عن الشهادة . وإن كانت حاضرة أشار إليها ، يظهر أثره بعد الاستيفاء كالقطع في السرقة على ثلاثة أوجه : وهل يحتاج مع الإشارة إلى ذكر الاسم والنسب أم لا ؟
أحدها : وهو قول أبي العباس بن سريج : أنه يجوز أن يقتصر على الإشارة مع ذكر الزوجية ، ولا يحتاج إلى ذكر الاسم والنسب كالشهادة ، فيقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا ، فيكون مقتصرا على شرطين : الزوجية والإشارة .
والوجه الثاني : أنه يحتاج مع ذكر الزوجية والإشارة إلى شرط ثالث هو الاسم دون النسب فيقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة هذه من الزنا ليتوجه اللعان إلى حاضر مسمى ؛ لأنه لا يحضر معها من يجوز أن تنصرف الإشارة إليه .
[ ص: 59 ] والوجه الثالث : وهو قول أبي حامد المروزي ، وحكاه في جامعه الذي نقل فيه منصوصات الشافعي أنه يحتاج مع ذكر الزوجية والاسم والإشارة إلى شرط رابع وهو النسب فيقول : زوجتي فلانة بنت فلان هذه ؛ لأن اللعان موضوع على التأكيد ونفي الاحتمال ، فإذا تقرر ما يذكره الزوج في الشهادة الأولى من لعانه ، أمره الحاكم أن يكرر ذلك أربع مرات متواليات يعيد في كل مرة منها مثل ما قاله في الأولى ، فإذا أكمل أربعا بقيت الخامسة وهي اللعنة ، فوقفه قبلها ووعظه ، وذكره الله تعالى ، وخوفه من عقابه ، وأعلمه أن الخامسة هي اللعنة الموجبة ، وإني أخاف إن كنت كاذبا أن تبوء بلعنة الله وأليم عقابه ، وأمر رجلا أن يضع يده على فيه حتى لا يسرع إليها ، فإن رآه يريد أن يمضي في لعانه لا يرجع عنه ، قال له : قل وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا ، فإذا قالها فقد أكمل بها جميع لعانه ما لم يكن نسبا يريد نفيه .
فإن كان نسبا يريد نفيه قال في كل واحدة من الشهادات الأربع واللعنة الخامسة : وأن هذا الولد ، وأشار إليه إن كان حاضرا من زنا وما هو مني .
وإن كانت ذات حمل قال : وأن حملها لحمل من زنا ما هو مني ، فتضمن نفي النسب في لعانه شرطين :
أحدهما : إضافته إلى الزنا .
والثاني : نفيه عنه ، ولا يجوز أن يضيفه إلى الزاني إن كان قد سماه في لعانه على ما سنذكره فيمن يسمى في القذف ؛ لأن ولد الزنا لا يلحق بالزاني ، فلم يجز أن يضاف إليه .
فصل : فإذا فرغ من لعان الزوج على ما وصفناه أجلسه وأقام الزوجة في مقامه وقال لها : قولي أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، وهل يحتاج - مع ذكر الزوجية والإشارة - إلى ذكر الاسم والنسب أم لا ؟ على ما ذكرناه من الأوجه الثلاثة .
إلا أن يكون غائبا فلا بد من ذكر اسمه ونسبه بما يتميز به عن غيره ولا يشاركه فيه أحد ، فإن على وجهين : كان الزوج قد نفى بلعانه نسبا فهل تؤمر بذكره في لعانها أم لا ؟
أحدهما : وهو قول البغداديين أنها لا تذكره في لعانها ؛ لأنه لا يتعلق بذكره في لعانها حكم .
والوجه الثاني : وهو قول البصريين تذكره في لعانها لتقابل الزوج على مثل لعانه في نفي ما أثبت من الزنا وإثبات ما نفى من النسب ؛ لأن الزوج يقول : أشهد بالله أني [ ص: 60 ] لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ، وأن هذا الولد من زنا ما هو مني ، فأثبت الزنا ونفى النسب ، وهي تقول : أشهد بالله أنه لمن الكاذبين فيما رماني به من هذا الزنا ، وأن هذا الولد منه ما هو من زنا ، فنفت الزنا وأثبتت الولد ، فإذا قالت ذلك في الشهادة الأولى ، أمرها أن تعيد ذلك أربع مرات ، فإذا أكملت الرابعة وقفها ووعظها بمثل ما وعظ به الزوج ، وأمر رجلا من ذوي محارمها أن يضع يده على فمها في الخامسة لترجع عنها ولا تسرع إليها ، فإن لم يكن لها ذو محرم أمر امرأة بذلك ، فإن رآها تريد إتمامه ، قال لها في الخامسة : قولي وعلي غضب الله إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا ، وأن هذا الولد ليس من زنا ؛ فإذا قالت الخامسة فقد أكملت لعانها وأسقطت به ما وجب عليها من حد الزنا بلعان الزوج ، ولم يتعلق به سوى سقوط الحد عنها عندنا ، وإن جعله مالك وأبو حنيفة شرطا في وقوع الفرقة على ما قدمنا من الخلاف معهما .