الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " وفي ذلك دلالة أن ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطلب المقذوفة ، كما ليس على قاذف الأجنبية حد حتى تطلب حدها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف العلماء في حد القذف على خمسة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو مذهب الشافعي : أنه من حقوق الآدميين ، لا يجب إلا بالمطالبة ويسقط بالعفو وينتقل إلى الورثة بالموت .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب الحسن البصري : أنه من حقوق الله تعالى المحصنة يجب بغير مطالبة ، ولا يسقط بالعفو .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب أبي حنيفة : أنه من حقوق الله المحصنة ؛ لأنه لا يجب إلا بالمطالبة ، ولا يسقط بالعفو ولا ينتقل إلى الورثة بالموت .

                                                                                                                                            [ ص: 10 ] والرابع : وهو مذهب أبي يوسف : أنه حق مشترك بين حق الله تعالى وحق الآدمي لا يجب إلا بالمطالبة ويسقط بالعفو .

                                                                                                                                            والخامس : وهو مذهب مالك : أنه من الحقوق المشتركة بين حق الله تعالى وحق الآدمي ، فإن سمعه الإمام وشاهدان وجب بغير مطالبة ، وإن سمعه الإمام وحده لم يجب إلا بالمطالبة ، ويجوز العفو عنه قبل الترافع إلى الإمام ، ولا يجوز العفو عنه بعد الترافع إليه .

                                                                                                                                            واستدل أبو حنيفة ومن ذهب إلى أنه من حقوق الله تعالى بقوله سبحانه : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 4 ] وهذا خطاب متوجه إلى أولي الأمر من الأئمة والحكام ، وكل خطاب توجه من الله تعالى إليهم في حق ، كان ذلك الحق من حقوق الله تعالى لا من حقوق الآدميين كقوله : الزانية والزاني فاجلدوا [ النور : 2 ] والسارق والسارقة فاقطعوا [ المائدة : 38 ] ولأنه حق لا ينتقل إلى مال فوجب ألا يكون من حقوق الآدميين كالزنا .

                                                                                                                                            ولأنه حد يفرق على جميع البدن فأشبه حد الخمر ، ولأنه لو كان من حقوق الآدميين لوجب إذا قذف الإنسان نفسه فقال : زنيت أن لا يحد ؛ لأنه لا يصح أن يثبت له على نفسه حق ، فلما وجب عليه الحد في قذفه ثبت أنه من حقوق الله تعالى ، ودليلنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع : ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا .

                                                                                                                                            ووجه الدليل منه : أنه أضاف أعراضنا إلينا كإضافة دمائنا وأموالنا ، ثم كان ما وجب في الدماء والأموال من حقوق الآدميين ، فكذلك ما وجب في الأعراض .

                                                                                                                                            وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من منزله يقول : اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك . فدل هذا الخبر على أن ما وجب عن عرضه من حقه ، ودل على صحة عفوه .

                                                                                                                                            ومن القياس أنه حق على بدن إذا ثبت بالاعتراف لم يسقط بالرجوع ، فوجب أن يكون من حقوق الآدميين كالقصاص .

                                                                                                                                            وقياس ثان : أنه حق لا يستوفيه الإمام إلا بعد المطالبة ، فوجب أن يكون من حقوق [ ص: 11 ] الآدميين كالديون ، فإن قالوا : ينتقض بالقطع في السرقة ولا يستوفى إلا بالمطالبة ، ثم هو من حقوق الله تعالى : قيل فيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه يجوز للإمام أن يقطع السارق من غير مطالبة إذا ثبت عنده سرقته ، فعلى هذا سقط السؤال .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب الشافعي أنه لا يقطع إلا بالمطالبة بالمال لا بالقطع ، والتعليل موضوع على أن ما لا يستوفى إلا بالمطالبة فهو من حقوق الآدميين .

                                                                                                                                            فلم يدخل عليه القطع في السرقة .

                                                                                                                                            وقياس ثالث : وهو أنه معنى وضع لرفع المعرة ، فوجب أن يكون من حقوق الآدميين كطلب الكفارة في المناكح ، ولأن الدعوى فيه مسموعة واليمين فيه مستحقة ، وحقوق الله تعالى لا تسمع فيها الدعوى ولا تستحق فيها الأيمان .

                                                                                                                                            أما الجواب عن قولهم : إن الخطاب في استيفائه متوجه إلى الولاة من الأئمة والحكام ، فهو أن المقصود بخطابهم ، أن يقوموا باستيفائها لمستحقيها لأنهم إما أن يعجزوا عنها إن ضعفوا ، أو يتعدوا فيها إن قووا ، فكان استيفاء الولاة لها أعدل .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قياسهم على حد الزنا والخمر فهو المعارضة في معنى الأصل ، إما بأنه يسقط بالرجوع بعد الاعتراف ، وإما بأنه يستوفى من غير طلب ، فخالفه حد القذف الذي لا يسقط بالرجوع بعد الاعتراف ولا يستوفى إلا بالمطالبة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إنه لما وجب عليه الحد في قذف نفسه كان من حقوق الله تعالى ، فهو أن حد القذف لا يجب عليه في قذف نفسه ، وإنما يصير بقذف نفسه مقرا بالزنا فلزمه حده دون القذف ، وحد الزنا لله تعالى فكان مأخوذا به . وحد القذف لنفسه فكان ساقطا عنه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية