قال الشافعي ، رحمه الله : " فلما أمر الله تعالى فيما خفنا الشقاق بينهما بالحكمين ، دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج ، فإذا اشتبه حالهما فلم يفعل الرجل الصلح ولا الفرقة ، ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية ، وصارا من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ولا يحسن ، وتماديا ، بعث الإمام حكما من أهله وحكما من أهلها ، مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما إياهما بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك ، واحتج بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما أن تجمعا إن رأيتما أن تجمعا ، وأن تفرقا إن رأيتما أن تفرقا ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به ، فدل أن ذلك ليس للحاكم إلا برضا الزوجين ولو كان ذلك لبعث بغير رضاهما " .
قال الماوردي : وهذا الباب يشتمل على الحكم في نشوز الزوجين ، وهو الشقاق ، وفي تسميته شقاقا تأويلان :
أحدهما : لأن كل واحد منهما قد فعل ما شق على صاحبه .
والثاني : لأن كل واحد منهما قد صار في شق بالعداوة والمباينة .
والأصل في ذلك قول الله تعالى : إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] فإذا شاق الزوجان ، وشقاقهما يكون من جهة الزوجة بنشوزها عنه ، وترك لزومها لحقه ، ويكون من جهة الزوج بعدوله عن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، فهذا على ضربين :
أحدهما : ألا يكونا قد خرجا في المشاقة إلى قبح من فعل كالضرب ، ولا إلى قبيح من قول كالسب ، فإن الحاكم ينصب لهما أمينا يأمره بالإصلاح بينهما ، وأن يستطيب نفس كل واحد منهما لصاحبه من عفو أو هبة ، لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاقها [ ص: 602 ] استعطفته بأن وهبت يومها منه سودة لعائشة رضي الله عنها ؛ لعلمها بشدة ميله إليها فعطف لها ، وأمسكها ، فنزل فيه قول الله تعالى : وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير [ النساء : 128 ] . فإن
والضرب الثاني : أن يكون الشقاق قد أخرجهما إلى قبيح الفعل فتضاربا ، وإلى قبيح القول فتشاتما ، وهو معنى قول الشافعي : وصارا من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ، ولا يحسن ، فهي الحال التي قال الله تعالى فيها وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [ النساء : 35 ] فيجب على الحاكم إذا ترافعا إليه فيها أن يختار من أهل الزوج حكما مرضيا ، ومن أهلها حكما مرضيا ، فإن جعل الحاكم إلى الحكمين الإصلاح بين الزوجين دون الفرقة جاز ، بل لو فعله الحاكم مبتدئا قبل ترافع الزوجين إليه أو فعله الحكماء من قبل أنفسهما من غير إذن الحاكم لهما جاز ، قال الله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [ النساء : 114 ] وإن أراد الحاكم أن يرد إلى الحكمين الإصلاح إن رأياه أولى ، والفرقة إن رأياها أصلح ، أو الخلع إن رأياه أنجح ، فهل يصح ذلك من الحكمين بإذن الحاكم من غير توكيل الزوجين ، أم لا يصح إلا بتوكيلهما ؟ على قولين :
أحدهما : يصح ذلك من الحكمين بإذن الحاكم من غير توكيل الزوجين ، نص عليه الشافعي في كتاب الطلاق من أحكام القرآن ، وبه قال مالك ، ودليله : قوله تعالى : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [ النساء : 35 ] فكان الدليل فيها من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خطاب توجه إلى الحاكم ، فاقتضى أن يكون ما يضمنه من إنفاذ الحكمين من جهة الحاكم دون الزوجين .
والثاني : قوله : إن يريدا إصلاحا راجع إلى الحكمين ، فدل على أن الإرادة لهما دون الزوجين .
والثالث : أن إطلاق اسم الحكمين عليهما ؛ لنفوذ الحكم جبرا منهما كالحاكم ، فلم يفتقر ذلك إلى توكيل الزوجين .
وروي أنه شجر بين عقيل بن أبي طالب ، وبين زوجته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة خصومة تنافرا فيها ، وكان سببها أن فاطمة كانت ذات مال تدل بمالها على عقيل ، وتكثر إذكاره بمن قتل يوم بدر من أهلها ، فتقول له : ما فعل عتبة ، ما فعل الوليد ، ما فعل شيبة ، وعقيل يعرض عنها إلى أن دخل ذات يوم ضجرا ، فقالت له : ما فعل عتبة والوليد وشيبة ، [ ص: 603 ] فقال لها : إذا دخلت النار فعلى يسارك ، فجمعت رحلها وبلغ ذلك عثمان ، فقرأ قوله تعالى : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] ، فاختار من أهل عقيل : عبد الله بن عباس ، ومن أهل فاطمة : معاوية بن أبي سفيان ، وقال : عليكما أن تجمعا إن رأيتما ، أو تفرقا إن رأيتما .
فقال عبد الله بن عباس : والله لأحرصن على الفرقة بينهما .
ففال معاوية : والله لا فرقت بين شيخين من قريش فمضيا إليهما وقد اصطلحا .
فدل هذا القول منهما على أن الحكمين يملكان الفرقة إن رأياها ، وذلك بمشهد من عثمان رضي الله تعالى عنه وقد حضره من الصحابة من حضر فلم ينكره ؛ ولأن للحاكم مدخلا في إيقاع الفرقة بين الزوجين بالعيوب والعنة وفي الإيلاء ، فجاز أن يملك بها تفويض ذلك إلى الحكمين .
والقول الثاني : أنه لا يصح من الحكمين إيقاع الفرقة والخلع إلا بتوكيل الزوجين ، ولا يملك الحاكم الإذن لهما فيه ، نص عليه الشافعي في كتاب " الأم " و " الإملاء " وبه قال أبو حنيفة ؛ لقول الله تعالى : إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [ النساء : 35 ] فدل على أن المردود إلى الحكمين الإصلاح دون الفرقة .
ولما روى ابن عون عن ابن سيرين عن عبيد الله السلماني قال : جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه ، مع كل واحد منهما قيام من الناس يعني جمعا ، فتلى الآية ، وبعث إلى الحكمين ، وقال : رويدكما حتى أعلمكما ماذا عليكما ، إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، ثم أقبل على المرأة وقال : قد رضيت بما حكما ؟ قالت : نعم رضيت بكتاب الله علي ، ثم أقبل على الرجل فقال : قد رضيت بما حكما ؟ فقال : لا ولكن أرضى أن تجمعا ولا أرضى أن تفرقا ، فقال له علي : كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بمثل الذي رضيت .
فموضع الدليل من هذا الخبر أنه لو ملك الحكمان ذلك بغير توكيل الزوجين لم يكن لرجوع علي رضي الله عنه إلى رضا الزوج وجه ، ولكان بإذن الحكمين فيه ، وإن امتنع
فإن قيل : فما معنى قوله كذبت والله حتى ترضى بمثل الذي رضيت ؟ وكيف يكون امتناعه من الرضا كذبا ؟ فعنه جوابان :
أحدهما : يجوز أن يكون تقدم منه الرضا ثم أنكره ، فصار كذبا وزال بالإنكار ما تقدم من التوكيل .
[ ص: 604 ] والثاني : أن قوله كذبت بمعنى أخطأت ، وقد يعبر عن الخطأ بالكذب ؛ لأنه بخلاف الحق ، ومنه قول الشاعر :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني أخطأتك عينك ، ويدل على ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل الطلاق إلا إلى الأزواج ، فلم يجز أن يملكه غيرهم ، ولأن الحاكم لا يملك إيقاع الطلاق والخلع بين الزوجين إلا عن رضاهما ، فلئلا يملكه الحكمان من قبله أولى .